167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

167ـ الزبير نموذج للغني المسلم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ أَمَلَاً﴾. وَقَالَ تعالى مُبَيِّنَاً حِرْصَ الإِنْسَانِ عَلَى المَالِ: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾.

وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «قَلْبُ ابْنِ آدَمَ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْعُمُرِ وَالْمَالِ» رواه ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَللهِ مَا أَحْسَنَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ ارْتِبَاطِ صَلَاحِ المَالِ بِصَلَاحِ العَبْدِ، روى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ صَلَاحِ العَبْدِ وَتَقْوَاهُ وَبَيْنَ غِنَاهُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ العَابِدُ التَّقِيُّ فَقِيرَاً مُحْتَاجَاً إلى غَيْرِهِ، فَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مِنْ أَغْنَى الصَّحَابَةِ وَمِنَ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ سَيِّدُنَا الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانُوا مِنَ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.

يَقُولُ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ للوَلِيِّ مَالٌ وَضَيْعَةٌ يَصُونُ بِهَا وَجْهَهُ وَعِيَالَهُ، وَحَسْبُكَ بِالصَّحَابَةِ وَأَمْوَالِهِمْ مَعَ وِلَايَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، وَهُمُ الحُجَّةُ عَلَى غَيْرِهِمْ.

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتَاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ ـ للِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ـ.

فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟

فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتَاً فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟

قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثَاً، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَحْسَنَ المَالَ الصَّالِحَ الذي يَتَصَدَّقُ مِنْهُ صَاحِبُهُ عَلَى المُحْتَاجِينَ، وَيَرْحَمُ بِهِ الفُقَرَاءَ، وَيُنَفِّسُ بِهِ كُرُبَاتِ المَسَاكِينَ، وَلَقَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ هَذَا المَعْنَى، فَقَالَ فُقَرَاءُهُمْ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ. رواه الشيخان. لِأَنَّهُمُ اسْتَعَانُوا بِمَالِهِمْ عَلَى زِيَادَةِ طَاعَاتِهِمْ.

الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ نَمُوذَجٌ للغَنِيِّ المُسْلِمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَمُوذَجَاً حَيَّاً للغَنِيِّ المُسْلِمِ، وَمِثَالَاً صَادِقَاً وَمُعَبِّرَاً عَنْ تَرْبِيَةِ الإِسْلَامِ المَالِيَّةِ المُتَمَثِّلَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» رواه البيهقي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَقَدْ كَانَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرِيصَاً أَنْ يَكْسِبَ المَالَ مِنْ طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مُبَاحٍ حَلَالٍ، وَأَنْ يُثَمِّرَهُ في طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مُبَاحٍ حَلَالٍ، وَأَنْ يُنْفِقَهُ في رِضْوَانِ اللهِ تعالى، جِهَادَاً بِالمَالِ في سَبِيلِهِ، وَعَطَاءً للفُقَرَاءِ المَحْرُومِينَ، وَتَحْرِيرَاً للأَرِقَّاءِ المُسْتَضْعَفِينَ، حَظُّهُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ في طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَأَنْ يُسَخِّرَهُ في إِعْزَازِ دِينِهِ، وَكَفَالَةِ إِخْوَانِهِ، وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، لَقَدْ كَانَ مَالُهُ في يَدِهِ، لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَمْ تَسْتَأْثِرْ بِهِ النَّفْسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، رَغْبَةً في كَنْزٍ أَو مُكَاثَرَةٍ أَو سَرَفٍ أَو تَرَفٍ، وَلَمْ يَدَعْ للشَّيْطَانِ سَبِيلَاً حَتَّى يَحْجُبَهُ عَنْ إِنْفَاقٍ في خَيْرٍ أَو مَعْرُوفٍ، فَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُنْفِقُ إِنْفَاقَ مَنْ لَا يَخْشَى الفَقْرَ، وَإِنْفَاقَ مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ بِمَا في يَدِ اللهِ أَوْثَقُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلَاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.

لَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ، وَقَدْ أَوْصَى لَهُ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو العَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعَاً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَبْنَائِهِمْ مِنْ مَالِهِ وَيَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ.

وَكَانَ لَهُ أَلْفُ غُلَامٍ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الخَرَاجَ، فَلَا يُدْخِلُ إلى بَيْتِهِ شَيْئَاً مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَلْ كَانَ مِنْ سَمَاحَةِ سَيِّدِنَا الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَقْبِضُ مِنْ أَحَدٍ وَدِيعَةً إِلَّا إِنْ رَضِيَ صَاحِبُهَا أَنْ يَجْعَلَهَا في ذِمَّتِهِ، وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْشَى عَلَى المَالِ إِنْ يَضِيعَ، فَيُظَنَّ بِهِ التَّقْصِيرُ في حَقِّهِ، فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ مَضْمُونَاً، فَيَكُونَ أَوْثَقَ لِصَاحِبِ المَالِ، وَأَبْقَى لِمُرُوءَتِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الصَّحَابَةِ، وَتَرَكَ ثَرْوَةً كَبِيرَةً، مَعَ جُودِهِ وَإِنْفَاقِهِ، عِلْمَاً أَنَّهُ في بِدَايَةِ إِسْلَامِهِ كَانَ فَقِيرَاً لَا شَيْءَ عِنْدَهُ.

روى الإمام البخاري عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ (بَعِيرٌ يُسْتَقَى عَلَيْهِ) وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي المَاءَ، وَأَخْرِزُ (خِيَاطَةُ الجُلُودِ وَنَحْوُهَا) غَرْبَهُ (الدَّلْوُ الكَبِيرُ) وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمَاً وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى.

فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ.

قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الفَرَسِ (تَرْوِيضَهَا وَتَدْرِيبَهَا) فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي.

لَقَدْ كَانُوا صَابِرِينَ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَكَانُوا شَاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَهَذَا هُوَ الكَمَالُ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 16/ كانون الثاني / 2020م