169ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (6)

169ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (6)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

الوَجْهُ الحَادِي عَشَرَ: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ . . .﴾ الآيَةَ: لَيْسَ فِيهَا مُعَاتَبَةً للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْلَاً، وَإِنَّمَا فِيهَا العِتَابُ لِمَنْ أَشَارَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالفِدَاءِ، بُغْيَةَ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَهُوَ المَالُ المُفْدَى بِهِ، حِينَ اسْتَشَارَ عَامَّةَ النَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَاصَّتَهُمْ: أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ.

فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ أُولَئِكَ النَّفَرَ الذينَ أَرَادُوا المَالَ.

أَمَّا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْصِدْ بِقَبُولِ الفِدَاءِ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ! فَإِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَا لَها قِيمَةٌ عِنْدَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ جِبَالُ تِهَامَةَ أَنْ تَكُونَ لَهُ ذَهَبَاً فَأَبَى، فَأَيْنَ هُوَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا!.

كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً﴾. فَإِنَّ هَذَا إِعْلَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنِعْمَتِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ، بِفَضْلِ نَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ القَضَاءُ، في الكِتَابِ الأَسْبَقِ، بِحِلِّ الغَنَائِمِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَضْلَاً مِنْهُ وَنِعْمَةً، بِفَضْلِ نَبِيِّهَا وَكَرَامَتِهِ عَلَى اللهِ تعالى.

وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُشِيدُ بِهَذِهِ المَنْقَبَةِ وَيَتَحَدَّثُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ في جُمْلَةٍ مِنَ المَنَاقِبِ التي خَصَّهُ اللهُ تعالى بِهَا فَيَقُولُ: «أُعْطِيتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، وَلَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي . . .» الحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ.

فَكَمَا أَنَّ إِرْسَالَهُ إلى النَّاسِ عَامَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَجَعْلَ الأَرْضِ لَهُ مَسْجِدَاً دُونَ غَيْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ عَنْ قَضَاءٍ مِنَ اللهِ تعالى سَابِقٍ، وَحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُحْكَمٍ مِنَ اللهِ تعالى لَاحِقٍ، فَكَذَلِكَ جَاءَ إِحْلَالُ الغَنَائِمِ أَيْضَاً، فَهُوَ شَرْعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى حِكَم ٍ وَإِحْكَامٍ، فَاعْتَبرِْ في ذَلِكَ وَتَبَصَّرْ، وَأَنْصِفْ وَتَدَبَّرْ.

وَلِذَلِكَ قَالَ القَاضِي أَبُو زَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ اللهُ تعالى عَاتَبَ رَسُولَهُ عَلَى الفِدَاءِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا نَجَا إِلَّا عُمَرُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُخْطِئَاً؟

قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ ـ صَوَابَاً ـ وَاللهُ تعالى قَرَّرَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . .﴾. الآيَةَ.

وَتَأْوِيلُ الآيَةِ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾. وَكَانَ لَكَ ـ يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ كَرَامَةً خُصِّصْتَ بِهَا رُخْصَةً، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ بِهَذِهِ الخِصِّيصَةِ لَمَسَّكُمُ العَذَابُ، لَحُكِمَ العَزِيمَةُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ.

ثُمَّ قَالَ القَاضِي أَبُو زَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَالوَجْهُ الآخَرُ ـ أَيْ: في تَأْوِيلِ الآيَةِ ـ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَبْلَ الإِثْخَانِ، وَقَدْ أُثْخِنْتَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ لَكَ الأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَكِنْ كَانَ الحَكَمُ في الأَسْرَى: المَنُّ أَو القَتْلُ دُونَ المُفَادَاةِ، فَلَوْلَا الكِتَابُ السَّابِقُ في إِبَاحَةِ الفِدَاءِ لَكَ ـ يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَسَّكُمُ العَذَابُ.

ثُمَّ قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خَطَأٌ، لَكَانَ الأَمْرُ بِالنَّقْضِ ـ أَيْ: بِرَدِّ الفِدَاءِ وَالأَمْرِ بِالقَتْلِ ـ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلْزَامُ ذَنْبٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ وَفُضِّلَ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: مَا كَانَ هَذَا لِنَبِيٍّ غَيْرِكَ، وَأَمَّا الخِطَابُ بِقَوْلِهِ: ﴿تُرِيدُونَ﴾. فَهُوَ لِمَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ المُرَادُ بِالمُرِيدِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعِصْمَتِهِ. اهـ. بِحُرُوفِهِ. (وَقَدْ نَقَلَ هَذَا عَنِ القَاضِي أَبِي زَيْدٍ في كِتَابِ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ عَلَى تَحْرِيرِ الكَمَالِ بنِ الـهُـمَامِ في بَحْثِ الاجْتِهَادِ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الأُصُولِ).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في فَتْحِ البَارِي: اخْتَلَفَ السَّلَفُ في أَيِّ الرَّأْيَيْنِ كَانَ أَصْوَبُ؟

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ وَافَقَ مَا قَدَّرَ اللهُ تعالى في نَفْسِ الأَمْرِ، وَلَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ، وَلِدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ في الإِسْلَامِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا بِذُرِّيَّتِهِ التي وُلِدَتْ بَعْدَ الوَقْعَةِ، وَلِأَنَّهُ وَافَقَ غَلَبَةَ الرَّحْمَةِ عَلَى الغَضَبِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ اللهِ تعالى في حَقِّ مَنْ كُتِبَ لَهُ الرَّحْمَةُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَأَمَّا مَنْ رَجَّحَ الرَّأْيَ الآخَرَ: فَتَمَسَّكَ بِمَا وَقَعَ مِنَ العِتَابِ عَلَى أَخْذِ الفِدَاءِ.

لَكِنَّ الجَوَابَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ حُجَّةَ الرَّجَحَانِ عَنِ الأَوَّلِ ـ أَيْ: بَلْ الرَّأْيُ الأَوَّلُ لَهُ الرَّجَحَانُ عَلَى غَيْرِهِ ـ بَلْ وَرَدَ ـ العِتَابُ ـ للإِشَارَةِ إلى ذَمِّ مَنْ آثَرَ شَيْئَاً مِنَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَلَوْ قَلَّ. اهـ.

يَعْنِي أَنَّ العِتَابَ الذي قَدْ يُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ، مُوَجَّهٌ لِمَنْ أَرَادَ بِالفِدَاءِ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ الذينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالفِدَاءِ، حِينَ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَامَّةَ النَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَاصَّتَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 22/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 17/ كانون الثاني / 2020م