168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

168ـ إسلام أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في الدُّنْيَا فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَاً لَهُ في الآخِرَةِ، في جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ.

أَبُو الدَّرْدَاءِ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكٍ الخَزْرَجِيُّ المُكَنَّى بِأَبِي الدَّرْدَاءِ كَانَ صَاحِبُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَانَتْ تَرْبِطُ بَيْنَهُمَا أَوَاصِرُ الأُخُوَّةِ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَا جَاءَ الإِسْلَامُ اعْتَنَقَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ ابْتِدَاءً أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَكِنَّ هَذَا الإِعْرَاضَ لَمْ يَقْطَعْ أَوَاصِرَ الأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا، وَبَقِيَ ابْنُ رَوَاحَةَ يَتَعَاهَدُ أَبَا الدَّرْدَاءِ بِالزِّيَارَةِ، وَيَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ، مِنْ مُنْطَلَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَقَدْ كَانَ ابْنُ رَوَاحَةَ حَرِيصَاً عَلَى إِيمَانِ وَإِسْلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَخَذَ يُرَغِّبُهُ فِيهِ، وَيَأْسَفُ عَلَى كُلِّ نَفَسٍ يَمْضِي مِنْ عُمُرِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَلَكِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءَ لَمْ يَسْتَجِبْ، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقَاً بِصَنَمٍ لَهُ، يَهْتَمُّ بِصَنَمِهِ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْدِيلَاً وَيُزَيِّنُهُ.

جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ قِصَّةُ إِسْلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

كَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ صَنَمٌ نَصَبَهُ في أَشْرَفِ مَكَانٍ مِنْ بَيْتِهِ فَنَهَضَ إِلَيْهِ يَوْمَاً فَحَيَّاهُ وَضَمَّخَهُ بَأَنْفَسِ مَا حَوَاهُ مَتْجَرُهُ الْكَبِيرُ مِنَ الطَّيْبِ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبَاً جَدِيدَاً مِنْ فَاخِرِ الْحَرِيرِ.

وَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ غَادَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْزِلَهُ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى مَحَلِّ تَجَارَتِه، فَإِذَا شَوَارِعُ الْمَدِينَةِ وَطُرُقَاتُهَا تَضِيقُ بِأَتْبَاعِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَائِدُونَ مِنْ بَدْرٍ وَأَمَامَهُمْ أَفْوَاجُ الأُسَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ.

فَأَعْرَضَ أَبُو الدَّرْدَاءَ عَنْهُمْ وَأَقْبَلَ عَلَى فَتَىً مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن رَوَاحَةَ، فَطَمَّنَهُ الْفَتَى عَلَيْهِ لَمِا كَانَ يَعْلَمُهُ مِنَ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَعِنْدَمَا وَصَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلى مَتْجَرِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي اتَّجَهَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلى مَنْزِلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَلَمَّا وَصَلَهُ رَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ فِي الْفِنَاءِ ـ أَيْ سَاحَةِ الْبَيْتِ ـ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أَمَةَ اللهِ.

فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا أَخَا أَبي الدَّرْدَاءِ.

فَقَالَ: أَيْنَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟

فَقَالَتْ: ذَهَبَ إِلى مَتْجَرِهِ.

فَقَالَ: أَتَأَذَنِينَ؟

فَقَالَتْ: عَلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ؛ وَأَفْسَحَتْ لَهُ الطَّرِيقَ، وَمَضَتْ إِلى حُجْرَتِهَا وَانْشَغَلَتْ عَنْهُ بِإِصْلاحِ شَأْنِ بَيْتِهَا وَرِعَايَةِ أَطْفَالِهَا.

دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي وَضَعَ فِيهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ صَنَمَهُ وَأَخْرَجَ قَدُّومَاً أَحْضَرَهُ مَعَهُ وَمَالَ إِلى الصَّنَمِ وَقَطَّعَهُ بِهِ وَكَسَّرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا كُلُّ مَا يُدْعَى مَعَ اللهِ بَاطِلٌ.

ثُمَّ غَادَرَ الْبَيْتَ ثُمَّ دَخَلَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ فَرَأَتْهُ مُكَسَّرَاً عَلَى الأَرْضِ، فَقَالَتْ: أَهْلَكْتَنِي يَا ابْنَ رَوَاحَةَ.

وَلَمَّا عَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَأَى امْرَأَتَهُ جَالِسَةً عِنْدَ بَابِ الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ وَهِيَ تَبْكِي خَائِفَةً مِنْهُ.

فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟

قَالَتْ: أَخُوكَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ جَاءَنَا فِي غَيْبَتِكَ وَكَسَرَ الصَّنَمَ.

فَنَظَرَ إِلى الصَّنَمِ فَوَجَدَهُ حُطَامَاً فَغَضِبَ وَهَمَّ أَنْ يَسْتَنْصِرَ لَهُ، لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ إِلَّا قَلِيلَاً حَتَّى سَكَتَ غَضَبَهُ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي الصَّنَمِ خَيْرٌ لَدَفَعَ عَنْهُ الأَذَى.

ثُمَّ انْطَلَقَ فَوْرَاً إلى ابْنِ رَوَاحَةَ وَمَضَيَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَنَ دُخُولَهُ فِي الإِسْلَامِ وَنَدِمَ كَبِيرَاً عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَدْرَكَ إدْرَاكَاً عَمِيقَاً مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ فِقْهٍ لِدِينِ اللهِ وَحِفْظٍ لِكِتَابِ اللهِ وَعِبَادَةٍ ادَّخَرُوهَا لأَنْفُسِهِمْ عِنْدَ اللهِ.

فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ بِالْجُهْدِ الْجَاهِدِ وَأَنْ يُوَاصِلَ كَلَالَ اللَّيْلِ بِكَلَالِ النَّهَارِ حَتَّى يَلْحَقَ بِالرَّكْبِ، فَانْصَرَفَ إِلى الْعِبَادَةِ انْصِرَافَ مُتَبَتِّل ـ أَيْ مُنْقَطِعٍ عَنِ الدُّنْيَا ـ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ إِقْبَالَ الظَّمْآنِ، وَأَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ اللهِ يَحْفَظُ كَلِمَاتِهِ وَيَتَعَمَّقُ فِي فِهْمِ آيَاتِهِ.

وَلَمَّا رَأَى التِّجَارَةَ تُنَغِّصُ عَلَيْهِ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ وَتُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَجَالِسَ الْعِلْمِ تَرَكَهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ وَلَا آسِفٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ سَائِلٌ، فَأَجَابَ: لَقَدْ كُنْتُ تَاجِرَاً قَبْلَ عَهْدِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ وَدِدْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالْعِبَادَةِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ لي مَا أَرَدْتُ، فَتَرَكْتُ التِّجَارَةَ وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْعِبَادَةِ.

ثُمَّ الْتِفَتَ إِلى سَائِلِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ الْبَيْعَ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ؛ وَلَمْ يَتْرُكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ التِّجَارَةَ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنْ زِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا وَاكْتَفَى مِنْهَا بِلُقْمَةٍ خَشِنَةٍ تُقِيمُ صُلْبَهُ وَثَوْبٍ صَفِيقٍ يَسْتَرُ بِهِ جَسَدَهُ.

وَفِي يَوْمٍ (مَا) نَزَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طَعَامَاً سَاخِنَاً وَلَمْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ لُحُفَاً، فَلَمَّا أَرَادُوا النَّوْمَ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِ طَلَبِ اللُّحُفِ لَهُمْ، فَقَالَ وَاحِدٌ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَأُكَلِّمُهُ.

فَقَالَ لَهُ آخَرُ: دَعْهُ؛ فَأَبَى حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحُجُرَةِ فَرَآهُ قَدِ اضْطَجَعَ وَامْرَأتُه جَالِسَةٌ قَرِيبَاً مِنْهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ خَفِيفٌ لَا يَقِي مِنْ حَرٍّ وَلَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ.

فَقَالَ لأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا أَرَاكَ إِلَّا كَمَا بِتْنَا أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟

فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَنَا دَارٌ هُنَاكَ نُرْسِلُ إِلَيْهَا تِبَاعَاً كُلَّ مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ، وَلَوْ كُنَّا اسْتَبْقَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ شَيْئَاً لَبَعَثْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ.

ثُمَّ إِنَّ فِي طَرِيقِنَا الذِي نَسْلُكُه إِلى تِلْكَ الدَّارِ عَقَبَةٌ كَؤُودٌ، الْمُخِفُّ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمثقِلِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نُخَفِّفَ مِنْ أَثْقَالِنَا لَعَلَّنَا نَجْتَازُ. ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَهِمْتُ وَجُزِيتَ خَيْراً.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: آمَنَ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَشَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإِسْلَامِ، وَحَبَّبَ إلى قَلْبِهِ الإِيمَانَ، فَاسْتَغَلَّ أَنْفَاسَ عُمُرِهِ البَاقِيَةَ في خِدْمَةِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في صَحِيفَةِ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَأَيْنَ أَثَرُنَا في أَصْحَابِنَا وَجُلَسَائِنَا؟ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للعَمَلِ بِمَا يُرْضِيكَ، وَأَنْ نَنْقُلَ الخَيْرَ للآخَرِينَ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 28/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 23/ كانون الثاني / 2020م