31ـ موقف سيدنا يعقوب عليه السلام من أبنائه

31ـ موقف سيدنا يعقوب عليه السلام من أبنائه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا رَجَعَ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مِنْ عِنْدِ أَخِيهِمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، رَجَعُوا بِالمِيرَةِ مَعَ ثَمَنِهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِغِلْمَانِهِ: ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. قَالُوا لِأَبِيهِمْ: ﴿يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. قَالُوا هَذَا الكَلَامَ قَبْلَ فَتْحِ مَتَاعِهِمْ.

لَقَدْ رَاوَدُوا أَبَاهُمْ مُجَرَّدَ وُصُولِهِمْ إلى أَبِيهِمْ قَبْلَ فَتْحِ المَتَاعِ، وَذَلِكَ حِرْصَاً مِنْهُمْ عَلَى الازْدِيَادِ مِنَ المِيرَةِ بِسَبَبِ السِّنِينَ العِجَافِ التي أَصَابَتْ مِصْرَ وَغَيْرَهَا مِنَ البُلْدَانِ.

وَأَخَذُوا يَذْكُرُونَ لِأَبِيهِمْ مَا يَقْتَضِي الإِجَابَةَ ـ وَهُوَ مَنْعُ الكَيْلِ ـ وَهُمْ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ للمِيرَةِ، وَوَعَدُوا أَبَاهُمْ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى أَخِيهِمْ، وَأَكَّدُوا هَذَا بِإنَّ وَلَامِ القَسَمِ، وَأَنَّهُمْ لَهُ حَصْرَاً وَقَصْرَاً حَافظُونَ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ فَرَّطُوا مِنْ قَبْلُ بِأَخِيهِمْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

مَوْقِفُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمُ ابْتِدَاءً:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا ذَكَرُوا هَذَا لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَجَابَهُمُ ابْتِدَاءً بِالرَّفْضِ، وَكَأَنَّ لِسَانَ الحَالِ يَقُولُ: «لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، لِأَنَّهُ مَنْ سَاءَ فِعْلُهُ سَاءَ الظَّنُّ فِيهِ، وَهَذَا جَزَاءُ المُسِيءِ، وَخَاصَّةً الذي لَمْ يُعْلِنْ تَوْبَتَهُ صَرَاحَةً، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ، وَيَظُنُّ أَنَّ سِتْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُ في قَلْبِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ مُسْتَقْبَلَاً.

فَأَجَابَهُمْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مَجْرُوحَةٌ عِنْدَهُ لِمَا فَعَلُوا بِأَخِيهِمْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ مَنْ عَرَفَ الخِيَانَةَ، لَا يُلَاحِظُ الأَمَانَةَ، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَثِقُ بِهِمْ وَلَا بِحِفْظِهِمْ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ طَلَبَ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَخْذَ يُوسُفَ أَوَّلَاً، وَكَانَتْ تِلْكَ الإِرَادَةُ للكَيْدِ بِهِ، وَأَمَّا الآنَ فَهُمْ يَطْلُبُونَ بِنيامين لَا لِيَكِيدُوا بِهِ، وَلَكِنْ لِيَمِيرُوا لِأَهْلِهِمْ.

لَقَدْ تَشَابَهَ المَوْقِفُ الأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي في الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَلَفَ في البَاطِنِ، في مَوْقِفِهِمُ الأَوَّلِ مَعَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، قَالُوا لِأَبِيهِمْ: ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وَفي المَوْقِفِ الثَّانِي قَالُوا لِأَبِيهِمْ: ﴿يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. المَوْقِفُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَاحِدٌ في الأَمْرَيْنِ ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وَلَكِنْ في الحَقِيقَةِ وَبَاطِنِ الأَمْرِ مُخْتَلِفَانِ، في المَوْقِفِ الأَوَّلِ كَانُوا كَاذِبِينَ في قَوْلِهِمْ: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا السُّوْءَ بِسَيِّدِنَا يُوسُفَ الكَبِيرِ، وَأَمَّا في المَوْقِفِ الثَّانِي: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. كَانُوا صَادِقِينَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا المِيرَةَ، فَتَشَابَهَتْ أَلْفَاظُ الوَعْدِ ظَاهِرَاً، وَاخْتَلَفَتِ الحَقَائِقُ، وَإِنَّ الأَحْكَامَ عَلَى الأَقْوَالِ تُؤْخَذُ مِنَ الظَّاهِرِ، وَيُقَاسُ فِيهِ الحَاضِرُ عَلَى المَاضِي، وَقَدْ كَانَ مَاضِيهِمْ مُشِينَاً في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، لِذَلِكَ خَافَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَى وَلَدِهِ بنيامين، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

الاسْتِفْهَامُ هُنَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ لِإِنْكَارِ الوُقُوعِ، أَيْ: لَيْسَ أَمْنِي عَلَيْهِ مِنْكُمْ إِلَّا كَأَمْنِي عَلَى يُوسُفَ مِنْكُمْ، وَقَدْ كَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنَّكُمْ جِئْتُمْ تَبْكُونَ، وَتَقُولُونَ: أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَكَيْفَ آمَنُكُمْ عَلَى أَخِيهِ؟

بَعْدَ أَنْ قَالَ لِأَبْنَائِهِ: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾. أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. كَأَنَّهُ مُطْمَئِنُّ القَلْبِ في هَذِهِ المَرَّةِ، بَيْنَمَا في المَرَّةِ الأُولَى في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ قَالَ: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾. كَلِمَاتٌ مُحْكَمَةٌ في الحَالَيْنِ.

مَوْقِفُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ نِهَايَةً:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَكَذَا كَانَ مَوْقِفُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْتِدَاءً: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وانْتَهَى الحَدِيثُ.

ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾. لَقَدْ فَرِحُوا أَشَدَّ الفَرَحِ، جَاءوا بِالمِيرَةِ، ثُمَّ عَادَ ثَمَنُهَا إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لِأَبِيهِمْ: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾. أَيُّ شَيْءٍ نُرِيدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾.

لَقَدْ تَحَقَّقَ كُلُّ مَا نُرِيدُ، هَذِهِ المِيرَةُ، وَهَذَا ثَمَنُهَا قَدْ رُدَّ إِلَيْنَا، وَفي الرِّحْلَةِ القَادِمَةِ نَأْتِي بِالمِيرَةِ، وبِمِيْرَةِ بِعِيرٍ زَائِدَةٍ، وَأَكَّدُوا عَلَى أَبِيهِمْ بِحِفْظِ أَخِيهِمْ، فَقَالُوا: ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾.

وَهُنَا تَغَيَّرَ مَوْقِفُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، فَقَالَ: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.

لَقَدْ عَمِلَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الاحْتِيَاطِ، وَأَخَذَ المِيثَاقَ في أَنْ يَرْجِعُوا بِأَخِيهِمْ بنيامين، وَلَكِنِ الحَذَرُ لَا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ، وَلَنْ يَكُونَ إِلَّا مَا حَكَمَ اللهُ تعالى بِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَلْطُفَ بِنَا فِيمَا جَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 2/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 27/ كانون الثاني / 2020م