33ـ نحو أسرة مسلمة: الحيوانات تعلم بأن رزقها على الله تعالى, فكيف بابن آدم؟

 

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ قَالَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ؟ فَقَالَ: يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلامَ الإِنْسِ، فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي: (أَخْبِرْهُمْ)، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنْسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ).

وفي رواية عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهَا حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي)؟ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)، وَمَا ثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

ونحن نؤمن بما آمن به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن به سيدنا أبو بكر الصدِّيق وسيدنا عمر رضي الله عنهما.

وكيف لا نؤمن بذلك والله عز وجل يقول: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين}؟ كيف لا نؤمن بذلك والله عز وجل يقول: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}؟

فالحيوانات تعلم بأن رزقها على الله تعالى كما عرفنا من حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرزق حقٌّ للدابة، ولكنَّ الدابَّة لم تفرضه على الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى هو الذي ألزم ذاته القدسيَّة بهذا الحق، فهو تعالى يعلم رزق كلِّ دابة، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}، يعلم الله رزق كلِّ دابَّة، ويعلم مُستَقرَّ كلِّ دابة، وأين تعيش حتى يوصل إليها هذا الرزق.

فالرزق يعرف عنوان المرزوق، والمرزوق لا يعرف عنوان رزقه، لأنه غيب عنه، والله تعالى حجب عنا هذا الغيب لحكمة بالغة.

إن كنت لا تعلم فالله تعالى يعلِّمك:

أيها الإخوة: إذا كان الحيوان يعلم بأن رزقه على الله تعالى، فالإنسان يجب عليه أن يعلم هذا من باب أولى، ولكن الحقَّ تبارك وتعالى ما ترك العبد حتى علَّمه، وخاصة في مسألة الرزق، خذ على سبيل المثال:

أولاً: قوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون * وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون}.

فالله تعالى يقسِم بأن الرزق مقسوم ومضمون وكائن لا محالة، كما أنكم لا تشكُّون في نطقكم. عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربُّهم ثم لم يصدِّقوا. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ثانياً: قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين}، فما من نوع من أنواع الدوابِّ في الأرض أو البحر أو الجو إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب، إذا كان هذا في حقِّ الدوابِّ غير المكلَّفة فكيف بالعبد المؤمن المكرَّم المخدوم في هذا الكون؟

وهؤلاء الأشعريُّون أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع قوله تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس الأشعريون من الدواب. أورده القرطبي في التفسير.

ثالثاً: قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}.

الرزق لا يتخصُّ ببقعة، بل رزق الله تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأينما وجدوا، فكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تستطيع جمعه وتحصيله، ولا تدَّخر شيئاً لغد، الله يقبض لها رزقها على ضعفها، والواقع يصدِّق هذا، فكيف بالإنسان المكرَّم عند الله تعالى.

رابعاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن روح القدس نفث في روعي وأخبرني أنها لا تموتُ نفس حتى تستوفي أقصى رزقها وإن أبطأ عنها، فيا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ رزقه أن يخرج إلى ما حرَّم الله عليه، فإنه لا يُدرَك ما عند الله إلا بطاعته) رواه عبد الرزاق.

هكذا يجب أن نكون وعلى ذلك نربِّي أبناءنا:

أيها الإخوة: من الواجب علينا أن نرسِّخ هذه الحقيقة في ذواتنا، وفي ذوات أبنائنا حتى لا نقع في الشرك الخفيِّ لا قدَّر الله تعالى، فالرزَّاق هو الله تعالى حصراً، قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين}.

وطالما أن الله هو الرزاق فلا يجوز لنا أن نحزن أن أن نخاف من قلة الرزق. روي أن كعب الأحبار وجد مكتوباً في التوراة: (يا بن آدم لا تخافنَّ من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني لا ينفد أبداً.

يا بن آدم لا تخشَ من ضيقِ الرزق ما دامتْ خزائني ملآنة، وخزائني لا تنفد أبداً. يا بن آدم لا تَأْنَسْ بغيري وأنا لك، فإن طلبتَني وجدتَني، وإن أَنِسْتَ بغيري فُتُّكَ وفاتك الخيرُ كله.

يا بن آدم خلقْتُكَ لعبادتي فلا تلعبْ، وقسمتُ رزقَكَ فلا تتعبْ، وفي أكثرَ منه فلا تطمعْ، ومن أقلَّ منه فلا تجزعْ، فإن أنتَ رضيتَ بما قسمتُه لك أرحْتُ قلبَكَ وبَدَنَكَ وكنتَ عندي محموداً، وإن لم ترضَ بما قسمْتُهُ لك فوعزَّتي وجلالي لأُسلطنَّ عليك الدنيا، تركضُ فيها ركضَ الوحوش في البرِّ، ولا ينالُكَ منها إلا ما قد قسمْتُهُ لك، وكنتَ عندي مذموماً.

يا بن آدم خلقتُ السمواتِ السبعَ والأرضينَ السبعَ ولم أَعْيَ بخَلْقِهنَّ، أَيُعْيِيني رغيفٌ أسوقُهُ لكَ من غير تعب.

يا بن آدم أنا لك مُحِبٌّ، فبحقِّي عليكَ كنْ لي مُحِبّاً.

يا بن آدم لا تطالبْني برزقِ غَدٍ كما لا أطالبُكَ بعملِ غَدٍ، فإني لم أَنْسَ من عصاني فكيف من أطاعني؟ وأنا على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وبكلِّ شيءٍ مُحِيطٌ).

بهذا تكون عزيزاً:

أيها الإخوة: بهذا الاعتقاد يكون الإنسان عزيزاً لا يذلُّ نفسه لأحد من خلق الله تعالى، لأنه صار على يقين بأن ما كان له فسيأتيه على ضعفه، وما كان لغيره فلن يناله بقوَّته، بهذا الاعتقاد يصبح عزيزاً بطاعته لله عز وجل ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.

دخل هشام بن عبد الملك الكعبةَ فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له: يا سالم سلني حاجة، فقال: إنني أستحيي من الله تبارك وتعالى أن أسأل في بيتِ الله غيرَ الله. فلما خرج خرجَ في إثره، فقال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة، فقال له: سالم من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا، فقال له سالم: أما والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكُها، فكيف أسأل مَنْ لا يملكها؟ رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

هذا هو العزُّ الذي يجب علينا أن نربِّي أولادنا عليه ليكونوا أعزَّاء في الدنيا والآخرة، ولا تكدِّرهم الحياة الدنيا.

زوجي أكَّال:

رجلٌ صالح وزوجته امرأة صالحة، رسخت هذه العقيدة في نفسيهما، سافر زوجها، ودخل عليها النساء فسألنَها: هل ترك لك زوجك شيئاً عندما سافر؟ قالت: لا، وبدأْنَ يحرِّضنها على زوجها، فقالت هذه المرأة الصالحة: عهدي بزوجي أنه أكَّال وليس برزَّاق، فذهب الأكَّال وبقي الرزَّاق.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنَها:

أيها الإخوة: إذا رسخت هذه الحقيقة في نفوسنا وفي نفوس أبنائنا، فيجب علينا أن نعلم بأن الرزق من عند الله تعالى، وعلينا أن نتوكَّل عليه في طلب رزقنا، والتوكُّل هو أن نأخذ بالأسباب ظاهراً، ونتوكَّل على الله باطناً، كما جاء في الحديث الشريف: (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) رواه ابن ماجه. وإلا فنحن متواكلون، والمتواكل في شرعنا مذموم كما أن المتوكِّل في شرعنا محمود.

الله عليك توكَّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **