44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

أرأيتم لو وقع في بئر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾. سَبَبُ وَسِرُّ هَذِهِ الخَيْرِيَّةِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ هُوَ أَمْرُهَا بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُهَا عَنِ المُنْكَرِ، وَمَا ضَلَّتْ أُمَّةٌ وَمَا زَاغَتْ وَمَا لُعِنَتْ إِلَّا بِسَبَبِ تَرْكِهَا الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، قَالَ تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

أَرَأَيْتُمْ لَو وَقَعَ في بِئْرٍ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ يَحْتَاجُ إلى رِجَالٍ قُلُوبُهُمْ صَافِيَةٌ، لَا تَحْمِلُ غِلَّاً وَلَا حِقْدَاً وَلَا ضَغِينَةً، يَحْتَاجُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ إلى رِجَالٍ مُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ رَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللهِ تعالى، يَحْتَاجُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ إلى رِجَالٍ يُحِبُّونَ الخَيْرَ للآخَرِينَ، يَحْتَاجُ إلى رِجَالٍ انْطَلَقُوا مِنْ مُنْطَلَقِ الحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

وَمِنْ مُنْطَلَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مِنْ خِلَالِ هَذَا، كَانَ سَيِّدُنَا عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكٍ الخَزْرَجِيُّ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَدْعُو إلى اللهِ تعالى، وَيَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَأْخُذُ بِيَدِ العَاصِي إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ.

جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ: مَرَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِجَمَاعَةٍ قَدْ تَجَمْهَرُوا عَلَى رَجُلٍ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَشْتُمُونَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟

قَالُوا: رَجُلٌ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ كَبِيرٍ.

قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَفَلَا تَكُونُونَ تَسْتَخرجُونَه مِنْهُ؟

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: لَا تَسُبُّوهُ وَلَا تَضْرِبُوهُ، وِإِنَّمَا عِظُوهُ وَبَصِّرُوهُ، وَاحْمَدُوا اللهَ الذِي عَافَاكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ذَنْبِهِ.

قَالُوا: أَفَلَا تُبْغِضُهُ؟

قَالَ: إِنَّمَا أُبْغِضُ فِعْلَهُ، فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي؛ فَأَخَذَ الرَّجُلُ يَنْتَحِبُ وَيُعْلِنُ تَوْبَتَهُ.

أَوْصِنِي يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ كَانَ قَلْبُهُ صَافِيَاً لَا يَحْمِلُ فِيهِ غِلَّاً وَلَا حِقْدَاً وَلَا ضَغِينَةً، وَكَانَ مَلِيئَاً بِالرَّحْمَةِ وَحُبِّ الخَيْرِ للآخَرِينَ أَحَبَّهُ النَّاسُ وَالْتَمَسُوا مِنْهُ النُّصْحَ وَالتَّذْكِيرَ.

جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ: جَاءَ شَابٌّ إِلى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ، أَوْصِنِي.

فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، اذْكُرِ اللهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ فِي الضَّرَّاءِ.

يَا بُنِيَّ، كُنْ عَالِمَاً أَوْ مُتَعَلِّمَاً أَوْ مُسْتَمِعَاً، وَلا تَكُنِ الرَّابعَ فَتَهْلَكَ.

يَا بُنَيَّ، لِيَكُنِ الْمَسْجَدُ بَيْتَكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمَسَاجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُمُ الرَّوْحَ وَالرَّحْمَةَ وَالْجَوَازَ ـ أي الْمُرُورَ ـ عَلَى الصِّرَاطِ إِلى رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».

صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ بَيْتُهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكٍ الخَزْرَجِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ آمِرَاً بِالمَعْرُوفِ نَاهِيَاً عَنِ المُنْكَرِ، وَيَسْتَغِلُّ الظُّرُوفَ وَالمُنَاسَبَاتِ لِذَلِكَ.

روى البيهقي عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الْمُسْلِمِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ بَـصَرَهُ وَفَرْجَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأَسْوَاقِ فَإِنَّهَا تُلْغِي وَتُلْهِي.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَسْعَدُ لَحَظَاتِ العَبْدِ المُؤْمِنِ عِنْدَمَا تَكُونُ صِلَتُهُ بِاللهِ تعالى، وَعِنْدَمَا يَكُونُ سَبَبَاً في صِلَةِ الآخَرِينَ بِاللهِ تعالى، وَمَنْ كَانَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ذَاكِرَاً كَانَ حَكِيمَاً، وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

أَسْعَدُ الخَلْقِ مَنْ كَانَ مُسْتَقِيمَاً عَلَى شَرْعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ سَبَبَاً في اسْتِقَامَةِ الآخَرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ أَمْرِهِ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ المُنْكَرِ، بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، مِنْ قَلْبٍ رَحِيمٍ شَفُوقٍ غَيُورٍ حَرِيصٍ عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى اللهِ تعالى.

أَسْعَدُ لَحَظَاتِ العَبْدِ المُؤْمِنِ عِنْدَمَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلَاً وَاحِدَاً، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» رواه الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 12/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 6/ شباط / 2020م