18ـ لقاء الله تعالى

18ـ لقاء الله تعالى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

لِقَاءُ اللهِ تعالى

اعْلَمْ أَنَّ لِقَاءَ اللهِ تعالى هُوَ حَقٌّ، وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ القُرْآنِيَّةُ وَالنَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ عِدَّةُ لِقَاءَاتٍ يَلْقَى بِهَا العَبْدُ رَبَّهُ، وَأَوَّلُهَا: لِقَاءُ العَبْدِ رَبَّهُ عَقِبَ المَوْتِ، ثُمَّ هُنَاكَ لِقَاءٌ في الحَشْرِ، ثُمَّ لِقَاءٌ عِنْدَ الحِسَابِ، وَعِنْدَ المِيزَانِ، وَعِنْدَ عَقَبَاتِ الصِّرَاطِ، وَهَكَذَا لِقَاءَاتٌ تَتْلُو لِقَاءَاتٍ، إلى أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ؛ فَهُنَاكَ اللِّقَاءُ وَالرُّؤْيَةُ الدَّائِمَةُ.

أَمَّا لِقَاءُ اللهِ تعالى عَقِبَ المَوْتِ:

فَقَدْ قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

أَيْ: يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَعْدَ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.

وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ في عِدَّةٍ مِنَ الأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ:

فَفِي: (صَحِيحِ) مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ قَالَ: «إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ العَبْدِ المُؤْمِنِ، تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا ـ قَالَ حَمَّادٌ الرَّاوِي: فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ المِسْكَ، قَالَ: ـ وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ، جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ، صَلَّى الله عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ.

قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ ـ قَالَ حَمَّادٌ: وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنَاً ـ وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ، جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ».

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا).

وَالرَّيْطَةُ هِيَ: ثَوْبٌ رَقِيقٌ، أَو المِلَاءَةُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ مَنْ شَمَّ رَائِحَةً خَبِيثَةً كَيْفَ يَضَعُ عَلَى أَنْفِهِ مَا يَمْنَعُ تِلْكَ الرَّائِحَةَ المُسْتَقْذَرَةَ.

وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَذَا في: (مُسْنَدِ) الإمام أحمد بِلَفْظِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ المَيِّتَ تَحْضُرُهُ المَلَائِكَةُ:

فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ».

قَالَ: «فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبَاً بِالرُّوحِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي ـ أَيْ: السَّمَاءَ ـ حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ».

قَالَ: «فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» ـ أَيْ: السَّمَاءَ التي يَتَجَلَّى فِيهَا اللهُ تعالى لَهُ فِيهَا ـ.

وَفي رِوَايَةٍ في: (المُسْنَدِ) عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ».

وَفي رِوَايَةٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَجَلَّى للمُؤْمِنِ بِاللِّقَاءِ في ذَلِكَ المَوْطِنِ.

«وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبَاً بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّكِ لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَيُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ» الحَدِيثَ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئٍبٍ بِنَحْوِهِ. اهـ.

وَقَالَ اللهُ تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ﴾.

وَالمَعْنَى: ازْدَجِرْ أَيُّهَا العَاقِلُ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الفَسَادِ، وَالضَّلَالِ، وَالغَفْلَةِ، وَتَذَكَّرْ ذَلِكَ اليَوْمَ الذي يَأْتِي عَلَيْكَ إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ التَّرَاقِي ـ جَمْعُ تُرْقُوَةٍ، وَهِيَ أَعَالِي الصَّدْرِ، وَالعِظَامُ المُكْتَنَفَةُ ثُغْرَةُ النَّحْرِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ـ.

﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ القَائِلُ ذَلِكَ: إِمَّا النَّاسُ، وَهُمْ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ، حِينَ رَأَوْهُ في تِلْكَ الحَالَةِ؛ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ: مَنْ يَرْقِيهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ رُقْيَةً يُشْفَى بِهَا، وَيُذْهِبُ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ المَرَضِ.

وَإِمَّا القَائِلُ ذَلِكَ هُمُ المَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِبَعْضِهِمْ: أَيُّكُمْ يَرْقَى بِرُوحِهِ، أَيْ: يَعْرُجُ بِهَا إلى السَّمَاءِ؟ أَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ العَذَابِ؟ حَتَّى يَأْمُرَ اللهُ تعالى أَحَدَهُمَا بِذَلِكَ.

قَالَ تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقَاً﴾ أَيْ: المَلَائِكَةُ تَنْزِعُ رُوحَ الكَافِرِ بِشِدَّةٍ ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطَاً﴾ أَيْ: المَلَائِكَةُ تَنْزِعُ رُوحَ المُؤْمِنِ بِسُهُولَةٍ وَرِفْقٍ.

فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الرُّقِيِّ لَا مِنَ الرُّقْيَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا المَعْنَى مَا جَاءَ في: (الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ـ أَيْ: عَابِدٍ لَيْسَ بِعَالِمٍ ـ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسَاً فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً.

ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، مَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسَاً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَمَشَى حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ الطَّرِيقُ، فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ.

فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبَاً مُقْبِلَاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ تعالى.

وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ ـ أَيْ: حَكَمَاً ـ.

فَقَالَ ـ أَيْ: عَنْ أَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالى ـ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى ـ أَقْرَبَ ـ فَهُوَ لَهُ.

فَقَاسُوا، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَجُعِلَ إلى أَهْلِهَا».

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَوْحَى اللهُ تعالى إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَقَالَ: قِيسُوا بَيْنَهُمَا، فَوَجَدُوهُ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَقَطْ».

وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: «أَقْرَبَ بِأُنْمُلَةٍ».

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 8/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 2/ كانون الثاني / 2020م