14ـ ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

14ـ ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ تعالى في سُورَةِ العَلَقِ: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾.

إِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَنْ تَسْمَعَ وَتَرَى عَبْدَاً ضَعِيفَاً مُحْتَاجَاً إلى اللهِ تعالى في سَائِرِ أَحْوَالِهِ، يُحَاوِلُ أَنْ يُنَادَّ اللهَ وَيُحَادَّهُ في مُلْكِهِ، فَيَأْمُرُ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ تعالى، وَيَسْعَى لِإِظْهَارِ البَاطِلِ وَإِزْهَاقِ الحَقِّ بِلِسَانِهِ الذي هُوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَرَّكَ حَرَكَةً يَمِينَاً وَلَا شِمَالَاً، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِقَوْلٍ إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُحَاوِلُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ تعالى كَذِبَاً، وَيُحَاوِلُ أَنْ يَأْمُرَ الآخَرِينَ بِذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَبَعْدَ أَنْ قَالَ تعالى مُسْتَنْكِرَاً فِعْلَ هَذَا الطَّاغِيَةِ: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. اشْتَدَّ في الخِطَابِ، فَقَالَ مُحَذِّرَاً وَمُهَدِّدَاً وَزَاجِرَاً هَذَا الطَّاغِيَ المُجْرِمَ: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾.

﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾:

﴿كَلَّا﴾ أَدَاةُ زَجْرٍ وَرَدْعٍ مُوَجَّهَةً للطَّاغِي البَاغِي الضَّالِّ المُضِلِّ أَبِي جَهْلٍ الذي كَانَ يُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيَصُدُّ النَّاسَ عَنِ اللهِ تعالى، وَيُحَاوِلُ إِيذَاءَهُمْ وَمَنْعَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ بِالإِكْرَاهِ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْفَعَهُ اللهُ تعالى عَلَى نَاصِيَتِهِ.

يُقَالُ: سَفَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ إِذَا لَطَمَهُ بِرَاحَتِهِ، وَسَفَعَهُ بِالعَصَا إِذَا ضَرَبَهُ بِهَا، وَسَفَعَهُ بِنَاصِيَتِهِ وَرِجْلِهِ إِذَا قَبَضَ عَلَيْهِمَا قَبْضَاً شَدِيدَاً بِعُنْفٍ، وَجَذَبَهُ مِنْهُمَا وَأَخَذَهُ.

النَّاصِيَةُ: مُقَدَّمُ الرَّأْسِ، وَشَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إِذَا طَالَ.

فَالحَقُّ سُبْحَانَهُ وتعالى يُقْسِمُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ هَذَا المُجْرِمُ بِأَنْ يَسْفَعَهُ عَلَى نَاصِيَتِهِ الكَاذِبَةِ الخَاطِئَةِ، فَهُوَ كَاذِبٌ في هُوِيَّتِهِ مُتَنَاقِضٌ في دَاخِلِهِ، يَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ صِدْقَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ في تَكْذِيبِهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الحِقْدَ وَالاسْتِكْبَارَ وَالاسْتِعْلَاءَ يَمْنَعُهُ مِنْ مُتَابَعَتِهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ دَفَعَهُ ذَلِكَ لِمُحَارَبَةِ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ كَاذِبٌ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَهُوَ خَاطِئٌ، مُتَقَصِّدٌ مَا يَفْعَلُ، وَلَيْسَ مُخْطِئَاً.

هَذَا الطَّاغِي المُجْرِمُ ـ وَأَمْثَالُهُ ـ سَيُؤْخَذُ بِنَاصِيَتِهِ وَقَدَمِهِ لِيُلْقَى في نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ حَتَّى يُلْقَوا في نَارِ جَهَنَّمَ جَزَاءً وِفَاقَاً.

﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾:

ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى هَذَا الطَّاغِي، عِنْدَمَا قَالَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا رَجُلٌ أَكْثَرُ نَادِيَاً مِنِّي.

روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ.

فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: لِمَ تَنْتَهِرُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا رَجُلٌ أَكْثَرُ نَادِيًا مِنِّي.

قَالَ: فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾.

قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ، لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ.

وفي رواية أَيْضَاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَهَاهُ.

فَتَهَدَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ: أَتُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيَاً.

فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ دَعَا نَادِيَهُ، لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ.

كَانَ مِنَ المُنَاسِبِ أَنْ يَدْعُوَ هَذَا الطَّاغِي كُلَّ أَهْلِ نَادِيهِ، وَجَمِيعَ أَنْصَارِهِ مُسْتَظْهِرَاً بِهِمْ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ ذُعِرَ أَبُو جَهْلٍ مِنْ هَذَا التَّحَدِّي ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَهُمْ قِسْمٌ مِنَ المَلَائِكَةِ يَزْبِنُونَ النَّاسَ، أَيْ: يَدْفَعُونَهُمْ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الذينَ آمَنُوا، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

نَعَمْ، لَقَدْ ذُعِرَ وَخَافَ مِنْ هَذَا التَّحَدِّي وَالوَعِيدِ الرَّبَّانِيِّ فَلَمْ يَسْتَنْصِرْ مِنْ أَهْلِ نَادِيهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾:

بَعْدَ هَذَا التَّهْدِيدِ وَالوَعِيدِ للطَّاغِيَةِ، تَوَجَّهَ الخِطَابُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَللمُؤْمِنِينَ ﴿كَلَّا﴾ يَعْنِي: لَا تُوَافِقْ هَذَا الطَّاغِيَ المَخْذُولَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَلَا تَسْمَعْ لِكَلَامِهِ، وَلَا تُنْصِتْ لِمَقَالِهِ، بَلِ اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ مِنْ حَضْرَةِ مَوْلَاكَ، فَإِنَّ سُجُودَكَ للهِ تعالى عِزٌّ لَكَ، وَخُضُوعَكَ للهِ شَرَفٌ لَكَ.

وَهَذَا الخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَجِدُ مَنْ يَنْهَاهُ عَنْ إِيمَانِهِ وَعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَضْطَهِدُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَىَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 7/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 2/كانون الثاني / 2020م