166ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (3)

166ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

وَقَدْ ذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنَ العُلَمَاءِ وَالمُحَقِّقِينَ إلى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ عَنِ الخَطَأِ بِعِصْمَةِ اللهِ تعالى لَهُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مِنَ الأَدِلَّةِ المُفَصَّلَةِ في مُطَوَّلَاتِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَأُصُولِ الفِقْهِ.

قَالُوا: وَإِنَّ نِسْبَةَ الخَطَأِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَمْرٍ مَا، تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنْ آيَةٍ أَو حَدِيثٍ تُثْبِتُ تَخْطِئَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، بَلْ وَلَمْ يَرِدْ عَلَى لِسَانِ الصَّحَابَةِ نِسْبَةُ الخَطَأِ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْلَاً.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الخَطَأُ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ يُقِرَّ عَلَيْهِ، لِتَنْبِيهِ الوَحْيِ إِيَّاهُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِصَّةِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَقِصَّةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَرُبَّمَا أَوْرَدُوا قِصَّةَ نُزُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ في مَكَانٍ، ثُمَّ تَحَوُّلِهِ عَنْهُ، عَمَلَاً بِرَأْيِ الحُبَابِ بْنِ المُنْذِرِ.

وَلَكِنْ لَدَى التَّحْقِيقِ وَتَسْدِيدِ النَّظَرِ، يَتَّضِحُ أَنَّهُ لَيْسَ للاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنْ أَثَرٍ، بَلْ إِنَّ الصَّوَابَ هُوَ فِيمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا قَالَهُ قَطْعَاً، وَإِنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في جَمِيعِ ذَلِكَ أَصْلَاً.

بَيَانُ ذَلِكَ:

أَمَّا قِصَّةُ أَسْرَى بَدْرٍ: فَهِيَ كَمَا في المُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فِي الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ تعالى قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ».

فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ.

فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ».

فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.

قَالَ: فَذَهَبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَيْضَاً:

اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيَّاً (قَالَ في شَرْحِ المَوَاهِبِ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَ النَّاسَ عَامَّةً، كَمَا تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» الحَدِيثَ.

وَاسْتَشَارَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ خَاصَّةً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيثُ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ جَوَابٌ مَعَ أَنَّهُ أَحَدُ المُسْتَشَارِينَ).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو العَمِّ وَالعَشِيرَةِ وَالإِخْوَانِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الفِدَاءَ، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدَاً.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا عُمَرُ؟».

فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ ـ قَرِيبٍ لِعُمَرَ ـ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيَّاً مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلَانٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ.

قَالَ عُمَرُ: فَهَوِيَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَيْ: أَحَبَّ ـ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ: غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ.

قُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَبْكِي للَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ـ لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

فَأَحَلَّ اللهُ لَهُمُ الْغَنَائِمَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ نَحْوَاً مِنْ هَذَا.

فَهَذِهِ قِصَّةُ الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَيْسَ في النُّصُوصِ الوَارِدَةِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْطَأَ ـ أَيْ: لَمْ يُصْبِ فِيمَا سَلَكَهُ مَعَ الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ ـ بَلْ إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ في هَذِهِ القِصَّةِ وَتَدَبَّرَ آيَاتِهَا وَأَحَادِيثَهَا يَتَّضِحُ لَهُ جَلِيَّاً أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُصِيبَاً فِيمَا فَعَلَهُ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

الوَجْهُ الأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِذَلِكَ، بِمُقْتَضَى المُشَاوَرَةِ التي أَمَرَهُ اللهُ تعالى بِهَا في قَوْلِهِ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَنَحَ إلى رَأْيِ مَنْ قَالَ بِالفِدَاءِ وَهَوِيَهُ ـ أَيْ: أَحَبَّهُ ـ لِمَا فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالعَطْفِ وَاللِّينِ، بِمُقْتَضَى المَقَامِ الذي أَقَامَهُ اللهُ تعالى فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ ـ وَقَدْ أُصِيبَ بِجِرَاحٍ ـ قِيلَ لَهُ: ادْعُ عَلَى المُشْرِكِينَ.

فَقَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 8/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 3/ كانون الثاني / 2020م