17ـ أقوال الفقهاء والمحدثين في أهمية الصحبة (2)

17ـ أقوال الفقهاء والمحدثين في أهمية الصحبة (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ:

ابْنُ قَيِّمَ الجَوْزِيَّة:

قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدٌ الشَّهِيرُ بِابْنُ القَيِّمِ: (فَإِذَا أَرَادَ العَبْدُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِرَجُلٍ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ أَو مِنَ الغَافِلِينَ، وَهَلِ الحَاكِمُ عَلَيْهِ الهَوَى أَوِ الوَحْيُ؟ فَإِذَا كَانَ الحَاكِمُ عَلَيْهِ هُوَ الهَوَى، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الغَفْلَةِ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطَاً... إِلَى أَنْ قَالَ: فَيَنْبَغِي للرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ فِي شَيْخِهِ وَقُدْوَتِهِ وَمَتْبُوعِهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ كَذَلِكَ فَلْيَبْعُدْ مِنْهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَأَمْرُهُ غَيْرُ مَفْرُوطٍ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ حَازِمٌ فِي أَمْرِهِ، فَلْيَسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ).

عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ عَاشِرٍ:

قَالَ الفَقِيهُ الـمَالِكِيُّ عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ عَاشِرٍ في مَنْظُومَةِ العَقَائِدِ وَعِبَادَاتِ فِقْهِ مَالِكٍ الـمُسَمَّاةِ "الـمُرْشِدُ الـمُعِينُ" مُبَيِّنَاً ضَرُورَةَ صُحْبَةِ الشَّيْخِ الـمُرْشِدِ وَمَا تُنْتِجُ مِنْ آثَارٍ طَيِّبَةٍ:

يَصْحَبُ شَيْخَاً عَارِفَ المَسَالِكْ   ***   يَـقِـــيهِ في طَرِيقِهِ المَهَالِكْ

يُـــــــــــــذَكِّـرُهُ اللهَ إِذَا رَآهُ    ***   وَيُوصِــلُ العَبْدَ إلى مَوْلَاهُ

يُـحَاسِبُ النَّفْسَ عَلَى الأَنْفَاسِ    ***   وَيَزِنُ الخَاطِرُ بِــالقِسْطَاسِ

وَيَـحْـفَظُ المَفْرُوضَ رَأْسَ المَالِ    ***   وَالنَّفْلَ رِبْـــــحَهُ بِهِ يُوالِي

وَيُـكْـثِـرُ الــــــذِّكْرَ بِصَفْوِ لُبِّهِ   ***   وَالعَوْنُ في جَمِيعِ ذَا بِـرَبِّــهِ

يُـجَـاهِـدُ الـنَّفْسَ لِرَبِّ العَالَمِينْ   ***   وَيَتَحَلَّى بِمَقَامَاتِ الـيَـقِينْ

يَـصِـيـــــــرُ عِنْدَ ذَاكَ عَارِفَاً بِهِ   ***   حُرَّاً، وَغَيْرُهُ خَلَا مِنْ قَلْبِهِ

فَـحَـــبَّـهُ الإِلَهُ وَاصْـطَـــــفَاهُ    ***   لِحَضْرَةِ القُدُّوسِ وَاجْتَبَاهُ

قَالَ شَارِحُ هَذِهِ الـمَنْظُومَةِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الـمَعْرُوفُ بِالكَافِي فِي كِتَابِهِ "النُّورُ الـمُبِينُ عَلَى الـمُرْشِدِ الـمُعِينِ": (إِنَّ مِنْ نَتَائِجِ صُحْبَةِ الشَّيْخِ السَّالِكِ، مَا يَحْصُلُ لِمُرِيدِهِ مِنْ أَنَّهُ يُذَكِّرهُ اللهَ، أَيْ يَكُونُ سَبَبَاً قَوِيَّاً فِي ذِكْرِ الـمُرِيدِ رَبَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْخَ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الـمَهَابَةِ التي أَلْبَسَهُ اللهُ إِيَّاهَا، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَفْضَلُكُمُ الذينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى لِرُؤْيَتِهِمْ).

وَمِنْ ثَمَرَةِ صُحْبَةِ هَذَا الشَّيْخِ السَّالِكِ أَيْضَاً أَنَّهُ يُوصِلُ العَبْدَ إِلَى مَوْلَاهُ بِسَبَبِ مَا يُرِيهِ مِنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَنُصْحِهِ بِالهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ اللهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَخْلُوقٍ نَفْعَاً وَلَا ضَرَّاً، وَلَا يَرْكَنُ لِمَخْلُوقٍ فِي دَفْعٍ أَو جَلْبٍ، بَلْ يَرَى جَمِيعَ الانْقِلَابَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فِي الحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ للهِ تَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى الوُصُولِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.

فَفَائِدَةُ الشَّيْخِ مَعَ الـمُرِيدِ هِيَ إِظْهَارُ العُيُوبِ القَاطِعَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى للمُرِيدِ، فَيُشَخِّصُهَا لَهُ، وَيُرِيهِ دَوَاءَهَا، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا مَعَ مُرِيدٍ صَادِقٍ أَلْقَى مَقَالِيدَ نَفْسِهِ لِشَيْخِهِ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ أَلَّا يَكْتُمَ خَاطِرَاً مَا عَنْ شَيْخِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَتَمَهُ وَلَوْ وَاحِدَاً فَلَا يَنْتَفِعُ بِشَيْخِهِ البَتَّةَ).

الطَّيِّبِيُّ صَاحِبُ "حَاشِيَةُ الكَشَّافِ" :

قَالَ الطَّيِّبِيُّ: (لَا يَنْبَغِي للعَالِمِ ــ وَلَوْ تَبَحَّرَ في العِلْمِ حَتَّى صَارَ وَاحِدَ أَهْلِ زَمَانِهِ ــ أَنْ يَقْتَنِعَ بِمَا عَلِمَهُ، وَإِنَّمَا الوَاجِبُ عَلَيْهِ الاجْتِمَاعُ بِأَهْلِ الطَّرِيقِ لِيَدُلُّوهُ عَلَى الطَّرِيقِ الـمُسْتَقِيمِ، حَتَّى يَكُونَ مِمَّنْ يُحَدِّثُهُمُ الحَقُّ في سَرَائِرِهِمْ مِنْ شِدَّةِ صَفَاءِ بَاطِنِهِمْ، وَيَخْلُصَ مِنَ الأَدْنَاسِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ مَا شَابَ عِلْمَهُ مِنْ كُدُورَاتِ الهَوَى وَحُظُوظِ نَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، حَتَّى يَسْتَعِدَّ لِفَيَضَانِ العُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ عَلَى قَلْبِهِ، وَالاقْتِبَاسِ مِنْ مِشْكَاةِ أَنْوَارِ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَـتَيَسَّرُ ذَلِكَ عَادَةً إِلَّا عَلَى يَدِ شَيْخٍ كَامِلٍ عَالِمٍ بِعِلَاجِ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ، وَتَطْهِيرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ الـمَعْنَوِيَّةِ، وَحِكْمَةِ مُعَامَلَاتِهَا عِلْمَاً وَذَوْقَاً، لِيُخْرِجَهُ مِنْ رُعُونَاتِ نَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَدَسَائِسِهَا الخَفِيَّةِ، فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الطَّرِيقِ عَلَى وُجُوبِ اتِّخَاذِ الإِنْسَانِ شَيْخَاً لَهُ، يُرْشِدُهُ إِلَى زَوَالِ تِلْكَ الصِّفَاتِ التي تَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ اللهِ بِقَلْبِهِ، لِيَصِحَّ حُضُورُهُ وَخُشُوعُهُ فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ، مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلَاجَ أَمْرَاضِ البَاطِنِ وَاجِبٌ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الأَمْرَاضُ أَنْ يَطْلُبَ شَيْخَاً يُخْرِجُهُ مِنْ كُلِّ وَرْطَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي بَلَدِهِ أَو إِقْلِيمِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّفَرُ إِلَيْهِ).

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 8/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 3/كانون الثاني / 2020م