103- خطبة الجمعة: غزة انتصرت وفُضِح المنافقون

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

الأمة تمرُّ بامتحان صعب:

فإن الأمة تمرُّ بامتحان صعب وصعب جداً، عندما يرى الواحدُ الطغاةَ وقد أمدَّهم الله في طغيانهم، فأخذوا يقتِّلون البشر، ويهدِّمون البيوت، ويقتِّلون الأطفال والنساء والشيوخ، ويُجْهِزون على الجرحى، ويقتلون الحرية ويجعلونها تحت أقدامهم، ثم يتصدَّرون في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة ليتحدثوا للعالم أجمع عن الحرية والديمقراطية التي يجب أن تسود العالم أجمع، ويتكلَّمون عن رعاية حقوق الإنسان، وهم وضعوا حقوق الإنسان تحت أقدامهم في سبيل مصالحهم.

ثم بعد ذلك جرائمهم تطال العباد والبلاد، والحجر والشجر والدواب، حتى يقول ضعاف الإيمان: أين الله؟ أين نصر الله؟

امتحان صعب وفتنة عظيمة، ولكن علاجَنا من القرآن العظيم، علاجُنا من كتاب ربنا القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيب}. أوَلسنا نطلب الجنة؟ الجنةُ غالية وثمنها غال، كما تحدثنا في الأسبوع الماضي.

هناك من يشكك في النصر:

علاجنا من خلال قول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم}. فمن كان الله مولاه فهو الذي يتولاه، هناك من يشكِّك في النصر الذي أكرم الله عز وجل به المجاهدين في غزة، ويقولون: أيُّ نصر هذا؟ تَهديِمٌ، وَتَقْتِيلٌ للأبرياء، وزهقٌ لأرواح الأطفال والنساء والشيوخ العُزَّل الذين لا يملكون حولاً ولا قوة، أيُّ نصر هذا؟

نسي هؤلاء قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. نسي هؤلاء بأن الخير قد يكون فيما نكره.

نسي هؤلاء سيرة النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، حيث تجلى فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم}. ومن كان الله مولاه تولاه، ومن تولاه ساق إليه الخير وربما أن يكون بثوب مصيبة.

تجلى في صلح الحديبية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، شيءٌ يجعلُ العبدَ في حيرة، لا يستطيع أن يربط بين الواقع والغيب القادم.

صلح الحديبية:

في صلح الحديبية: وقع حسب الظاهر شيء يكرهه الصحابة، حتى رأينا سيدنا عمر رضي الله عنه كما جاء في الصحيحين قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله؟ قَالَ: (بَلَى)، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: (بَلَى)، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: (إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي)، قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: (بَلَى)، قَالَ: (أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ)؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُتَطَوِّفٌ بِهِ)، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ.

ما الذي حصل في صلح الحديبية حتى يقول سيدنا عمر رضي الله عنه هذا الكلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اسمع يا أخي الكريم ماذا تُحدِّثنا السيرة العطرة عن صلح الحديبية.

أرسلت قريش سهيل بن عمرو ممثلاً عنها ليكتب بينهم وبين المسلمين كتاب الصلح، فلما جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب ـ وكان الكاتب علياً رضي الله عنه فيما رواه مسلم ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب  ) فقال سهيل: أما (الرحمن) فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا  ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب (محمد بن عبد الله) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)! اكتب محمد بن عبد الله. وفي رواية مسلم: فأمر علياً أن يمحوَها، فقال علي: لا والله لا أمحوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرني مكانها)، فأراه مكانها فمحاها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أُخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام القادم، وليس مع المسلمين إلا السيوف في قِرابها، فكتب، فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاء منكم لم نردَّه عليك، فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يُردُّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ والتفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه: أتكتب هذا يا رسول الله؟ قال: (نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً). ما هذا الصلح؟ في ظاهر الأمر الشروط تُملى من طرف واحد، ولحساب طرف واحد ألا وهو المشركون، فأيُّ صلح هذا فيما يراه البشر؟ إنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دين الله، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله}. {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.

وحقاً قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة وقلوبُ الصحابة تغلي، وما هو إلا أن نزلت سورة الفتح بكاملها:

بِسْمِ الله الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا}. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأه إياها، فقال: يا رسول الله أوَ فتح هو؟ قال نعم، فطابت نفسه.

نعم أيها الإخوة جرت سنة الله في خلقه أن يوطئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها مقدماتٍ تُؤذِن بها وتدل عليها، وتذكَّروا أيها الإخوة ما قلته لكم في الأسبوع الماضي قول الله عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون}. عُلُوُّ فرعون كان سبباً لِمنَّة الله عز وجل على الذين استُضعِفُوا في الأرض فجعل منهم أئمة ووارثين ومكَّن لهم في الأرض، وأهلكَ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما.

نعم أيها الإخوة، صلحُ الحديبية ـ بتلك الشروط القاسية التي كانت كلَّها في ظاهر الأمر للمشركين وليس للمسلمين منها شيء ـ كان فتحاً مبيناً، كما قال علماء السيرة: ما فُتِح في الإسلام فَتْحٌ قبله كان أعظم منه.

صور من نصر الله لإخواننا في غزة:

وإن ما جرى في غزة هو نصر بحمد الله عز وجل، عَرفَ هذا من عَرَفَ وجهله من جهل، نعم ما جرى في غزة نصرٌ، قد يقول أحدنا أين هذا النصر مع الهدم والتَّقتيل والتَّحرِيق والتشريد؟

النصر في غزة تجلَّى في كشف حقائق الذين يجعلون من قضيةِ فلسطين قضيَّتَهم، ويجعلونها سبباً للمحافظة على كراسيهم وعروشهم وكلهم يراهن على هذه القضية، وأنه هو أبوها وأخوها.

فجاءت أحداث غزة فكشفت حقائق الأدعياء وفضحتهم على رؤوس الأشهاد، وخاصة من الحكام الخونة الذين انتعلهم اليهود والغرب.

أيها الإخوة: أنا لا أعرف الحديث عن السياسة، ولا أعرف التكلم فيها، ولكن أرجع إلى القرآن العظيم، لنأخذ منه الآيات الكريمة ونسقطها على أحداث غزة المنتصرة.

أولاً: قالت اليهود لسيدنا موسى عليه السلام عندما دعاهم إلى الجهاد: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون}. وهناك من قال للمقاومة مثل هذا الكلام: اذهبوا وقاتلوا إنا هاهنا قاعدون ننتظر، ماذا ينتظرون؟ ينتظرون أن تسلِّمهم اليهودُ قطاعَ غزة بعد القضاء على المقاومة فيها. وباؤوا بفضل الله عز وجل بالفشل. أليس هذا نصراً؟

ثانياً: يحدثنا الله تعالى عن المنافقين الذين يُثَبِّطون هِمَمَ المجاهدين: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين}. وهناك من قال للمقاومة في غزة مثل هذا الكلام، أنتم السبب في قتل الأبرياء وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وفي التهديم الذي حصل، إرجافٌ منهم، وهذا يذكرني بقول المنافقين لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، عندما بلغت القلوب الحناجر فقال أحدهم: (كانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ) رواه البيهقي. هكذا ظهرت الفتنة المنافقة التي باعت دينها بعرض من الدنيا قليل، فقالت للمقاومة مثل هذا القول. أليس هذا نصراً؟

ثالثاً: أحداث غزة فضحت أصحاب القلوب المريضة الذين هم حريصون كلَّ الحرص على كراسيهم وعلى عروشهم، فجعلوا رقابهم تحت نعال اليهود والغرب، وهذا ما أشار الله تعالى إلى مثله في قوله عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين}.

قالوا لا طاقة لنا بقوة اليهود، ونخشى أن تصيبنا دائرة، خوفاً على كراسيهم وعروشهم، فوضعوا رقابهم تحت نعالهم، ونافقوا لهم، أليس هذا نصراً، حيث فُضِحَ هؤلاء الأدعياءُ الذين يتاجرون في قضية فلسطين؟

ونسي هؤلاء أن اليهود لا يرعون إلاًّ ولا ذمةً، مصلحتُهم فوق كل شيء، قد ينتعلون أحدَهم، فإذا انتهت مهمته قتلوه، وأنا لا أريد أن أذكر الأسماء، هم الذين يقتلون من نافق لهم، ويقتلون من عاداهم، قتلوا من انتهت مهمته عندهم من المنافقين لهم، ويقتلون من وقف في وجههم، فهذا ذهب بالشرف والفخار، وذاك ذهب بالخزي والعار، هذا سجَّل له التاريخ تاريخه، وذاك سجل التاريخ تاريخه، هذا تاريخه مشرقٌ ومشرِّفٌ رَبِحَ الدنيا والآخرة، وذاك تاريخه أسودٌ وعارٌ عليه خسر الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة: هناك من يقول أن الحرب لم تكن لصالح المقاومة؟

أقول لهؤلاء المرجفين: إن لم تكن نصراً للمقاومة فأيُّ نصر كان لليهود في غزة؟ هل بقتل الأبرياء وقتل النساء والأطفال والشيوخ العزَّل وتهديم البيوت حقَّقوا نصراً؟ هؤلاء الجبناء الذين وصفهم الله تعالى بقول: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون}. فعلوا ما فعلوا من خلال الطيران ومن خلال المدرعات التي حبسوا فيها أنفسهم، وفتح لهم العالم أبوابه داعماً لهم، وحوصرت المقاومة وأهلُ غزة ومُنِع عنهم لا أقول السلاح بل الطعام والشراب والدواء، ومع ذلك ولَّى اليهود أدبارهم، وما استطاعوا على المقاومة، وأوقفوا الحرب من جانبهم، أوقفوا إطلاق النار من جانبهم فقط، مع أن السلاح الذي قاتلوا فيه هؤلاء العزَّل هو سلاح لا يكون إلا في قتال جيوش مع بعضهم البعض.

وهذا يذكِّرني أيها الإخوة بموقعة أحد، التي كانت في ظاهر الأمر انتصاراً للمشركين على المسلمين، ولكن العجيب أن نرى المنتصر ولَّى دبره وبقي المهزوم في داره، وتبعهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين خرجوا معه في أحد حتى وصلوا إلى حمراء الأسد، وسمع جيشُ قريش بهم فولى مدبراً، فأيُّ نصر كان لهؤلاء المشركين؟ وأيُّ نصر كان لليهود في غزة؟ والمقاومة هي المقاومة بحمد الله عز وجل، واسأل الله تعالى الثبات لهم؟

الدرس الذي يجب علينا أن نأخذه:

أيها الإخوة الدرس الذي يجب علينا أن نأخذه من أحداث غزة، وأن يأخذه قادة المسلمين والعرب مع شعوبهم، هو قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ}. لا بدَّ من الإعداد، وأول الإعداد هو قوَّة العقيدة، إعداد عَقَدي، إعداد إيماني بقوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون}. إعداد إيماني بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}. إعداد إيماني بان الآخرة هي دار القرار، إعداد كما قاله سيدنا خالد رضي الله عنه لقادة الروم: (والله الذي لا إله إلا هو لأسيرنَّ إليكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة) رواه ابن أبي شيبة. لا إعداد مادي فقط، لأن القوَّة بدون عقيدة لا قيمة لها، فالقوة لا تجعل حقاً، ولكن الحق هو الذي يجعل القوة.

وعلى رأس هذا الإعداد الصلةُ مع الله تعالى، والتي تتمثل بالصلاة، التي هي صلة بين العبد وربه، فيا أيها القادة، يا أيها الحكام ، يا أيتها الشعوب، الصلاةَ الصلاة.

هذا هو الإعداد الحقيقي أولاً، ثم الإعداد المادي على قدر الاستطاعة، أما إذا ظننا أن الإعداد يكون بالقوة فقط دون الإعداد العقدي فقد أخطأنا الحساب، لأن الوصول إلى إعداد مادي كإعدادهم يحتاج إلى زمن طويل، وربما أن لا نصل إلى ما وصلوا إليه، ولكن نعدُّ على قدر الاستطاعة بعد الإعداد العقدي ونحن على يقين {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله}.

ومن الإعداد اليوم الجهاد بالمال، فباب الجهاد بالمال مفتوح، وتذكروا أيها الإخوة قَولَ النَبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا) رواه مسلم.

باب الجهاد مفتوح لماذا لا تلِجوه؟ وماذا تنتظرون؟ هل ينتظر أحدكم أن تزهق روحه ليقول حينها: { رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون}؟ هل تنتظرون أن تزهق الروح ليقول الواحد عندها: {رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين}؟

أيها الإخوة جاهدوا بأموالكم فالباب مفتوح، وجزى الله خيراً من فتح هذا الباب في بلدنا، وإن سألتم هل يجوز أن نجعل زكاة أموالنا لإخواننا في غزة من أجل المنكوبين من أجل المقاومة؟ أقول لكم: نعم أيها الإخوة يجوز، ونص القرآن واضح، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيم}. والمقصود بقوله: {وَفِي سَبِيلِ الله} هو الجهاد.

ولكن أريد منكم أيها الإخوة أن تتركوا الزكاة لإخوانكم الفقراء في بلدكم، وأن تجعلوا مثل زكاة أموالكم لإخوانكم في غزة، أوما تذكرون أيها الإخوة عندما بايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على النفقة في الفقر والغنى، حيث يقال: (تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمْ الْجَنَّةُ) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وابن حبان.

أسأل الله عز وجل أن يوفِّقنا للجهاد بالمال وبالنفس، وأن تكون أعمالُنا خالصةً لوجه الله عز وجل، وأن يرينا آثار هذا الفتح والنصر عاجلاً غير آجل. إنه سميع مجيب. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

**     **     **