54ـ آداب النظر (2)

54ـ آداب النظر (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِسْلَامُنَا لَا يَرْضَى لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الفَوَاحِشَ، بَلْ يَنْهَى عَنْ قُرْبَانِهَا فَضْلَاً عَنْ إِتْيَانِهَا، وَهُوَ يُحَرِّمُ الوَسَائِلَ، وَيَسُدُّ الأَبْوَابَ التي تُؤَدِّي إِلَيْهَا، لِهَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَنُصُوصٌ ظَاهِرَاتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنِعْمَةِ البَصَرِ، فَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.

بَلْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيُعَلِّمَنَا أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْنَا، وَلِنَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنِ اخْتِلَاسِ النَّظَرِ المُحَرَّمِ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الخِيَانَةِ العُظْمَى.

آدَابُ النَّظَرِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَرَفْنَا في اللِّقَاءِ السَّابِقِ آدَابَ النَّظَرِ إلى المَحَارِمِ، وَآدَابَ النَّظَرِ إلى المَخْطُوبَةِ، وَآدَابَ النَّظَرِ إلى الزَّوْجَةِ، وَآدَابَ النَّظَرِ إلى المَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَاليَوْمَ نَتَعَلَّمُ آدَابَ نَظَرِ الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ.

آدَابُ نَظَرِ الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا يَجُوزُ للرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ للرَّجُلِ مِنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ المَنْظُورُ إِلَيْهِ قَرِيبَاً أَمْ بَعِيدَاً، وَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ» رواه الإمام مسلم.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ» رواه الطَّبَرَانِيُّ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى مَعْمَرٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ دَارِهِ فِي السُّوقِ وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «غَطِّ فَخِذَكَ يَا مَعْمَرُ، فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» رواه أبو داود وابن حبان والحاكم واللفظ له.

فَيَحْرُمُ نَظَرُ الرَّجُلِ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ بِشَهْوَةٍ أَو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَمَّا مَا عَدَا العَوْرَةِ فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ، مَعَ مُرَاقَبَتِهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ وَقَعَ في الإِثْمِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ غَضُّ البَصَرِ، وَلْنَتَذَكَرْ جَمِيعَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.

فَلْيَكُنِ الرَّجُلُ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّظَرِ إلى الأَمْرَدِ، فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ يَحْرُمُ.

آدَابُ نَظَرِ المَرْأَةِ إلى المَرْأَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: آَمَّا آدَابُ نَظَرِ المَرْأَةِ إلى المَرْأَةِ فَقَدْ عَلَّمَنَا إِيَّاهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَحَرَّمَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ، وَعَوْرَتُهَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلى رُكْبَتِهَا أَمَامَ النِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَرِيبَةً أَمْ بَعِيدَةً، فَيَحْرُمُ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلى فَخِذِ المرَأْةِ وَلَو كَانَتِ ابْنَتَهَا أَو أُخْتَهَا أَو أُمَّهَا... وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ» رواه الإمام مسلم.

فَيَحْرُمُ نَظَرُ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ مِنْ سُرَّتِهَا إلى رُكْبَتِهَا بِشَهْوَةٍ أَو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَأَمَّا مَا عَدَا العَوْرَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَإِلَّا حَرُمَ النَّظَرُ كَذَلِكَ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ للمَرْأَةِ الكَافِرَةِ فَلَا يَجُوزُ للمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ أَنْ تَكْشِفَ أَمَامَهَا إِلَّا الوَجْهَ وَالكَفَّيْنِ، لِأَنَّ عَوْرَةَ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ أَمَامَ المَرْأَةِ الكَافِرَةِ جَمِيعُ بَدَنِهَا إِلَّا الوَجْهَ وَالكَفَّيْنِ، وَبَعْضُ الفُقَهَاءِ قَالَ: كُلُّهَا عَوْرَةٌ أَمَامَ المَرْأَةِ الكَافِرَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾.

وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ شُرُوطَاً في لِبَاسِ المَرْأَةِ، مِنْهَا:

1ـ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبَاً جَمِيعَ بَدَنِها، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

2ـ أَنْ يَكُونَ صَفِيقَاً ـ سَمِيكَاً ـ لَا يَشِفُّ، لِأَنَّ المَقْصُودَ هُوَ سَتْرُ مَا تَحْتَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا بِالثِّيَابِ الشَّفَّافَةِ الرَّقِيقَةِ.

3ـ أَنْ يَكُونَ فَضْفَاضَاً غَيْرَ ضَيِّقٍ، لِأَنَّ الثِّيَابَ الضَّيِّقَةِ تُجَسِّدُ الجَسَدَ.

4ـ أَنْ لَا يَكُونَ زِينَةً بِحَدِّ ذَاتِهِ، حَتَّى لَا يَلْفِتَ الأَنْظَارَ.

5ـ أَنْ لَا يَكُونَ مُبَخَّرَاً وَلَا مُطَيَّبَاً.

6ـ أَنْ لَا يُشْبِهَ ثِيَابَ الرِّجَالِ.

7ـ أَنْ لَا يُشْبِهَ ثِيَابَ الفُسَّاقِ وَالفُجَّارِ وَأَهْلِ الكُفْرِ.

8ـ أَنْ لَا يَكُونَ ثِيَابَ شُهْرَةٍ.

وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَرْأَةَ أَنْ تَخْرُجَ بِثِيَابٍ رَقِيقَةٍ أَو ضَيِّقَةٍ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةً، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَنَا شَرْعُنَا الحَنِيفُ الحَيَاءَ، وَمِنَ الحَيَاءِ أَنْ يَحْفَظَ العَبْدُ عَوْرَتَهُ، فَلَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا المَرْأَةُ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ، لِأَنَّ النَّظَرَ إلى العَوْرَاتِ يُؤَدِّي إلى ارْتِكَابِ الفَوَاحِشِ، نَظَرُ الرَّجُلِ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ قَدْ يُؤَدِّي إلى جَرِيمَةِ اللِّوَاطَةِ، وَنَظَرُ المَرْأَةِ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ قَدْ يُؤَدِّي إلى السِّحَاقِ.

لِذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى في خَلْقِهِ أَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِمْ مَنَافِذَ الشَّرِّ، وَأَرْخَى لَهُمْ سِتْرَ الوِقَايَةِ، فَمَنْ فَتَحَهَا أَو اخْتَرَقَهَا وَقَعَ في الإِثْمِ وَالمَعْصِيَةِ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابَاً مِنَ التُّقَى   ***   تَقَـلَّبَ عَـرْيَانَاً وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا

وَخَـيْـرُ لِـبَـاسِ المَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ   ***   وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ للهِ عَاصِيَا

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُحَافِظْ عَلَى عَوْرَاتِنَا، وَلْنَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ، وَلْنَنْهَ عَنِ المُنْكَرِ؛ لَقَدْ تَسَاهَلَ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ بِكَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ أَمَامَ الرِّجَالِ في الشَّارِعِ وَفي البَيْتِ أَمَامَ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِهِمْ.

كَمَا تَسَاهَلَتِ المَرْأَةُ في كَشْفِ عَوْرَتِهَا أَمَامَ أَبْنَائِهَا وَبَنَاتِهَا وَأَمَامَ النِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ وَغَيْرِ المُسْلِمَاتِ، وَهَذِهِ طَامَّةٌ كُبْرَى، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ انْحِطَاطِ المُجْتَمَعِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الفَوَاحِشِ، أَجَارَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيَّاكُمْ مِنْهَا.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ، وَفِّقْنَا لِأَنْ نَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ نَذْكُرَ المَوْتَ وَالبِلَى. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 12/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 8/ كانون الثاني / 2020م