36ـ ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾

36ـ ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا جَهَّزَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ إِخْوَتَهُ بِجَهَازِهِمْ، وَوَضَعَ الصُّوَاعَ في رَحْلِ أَخِيهِ سِرًّا، وَلَمَّا هَمُّوا بِالرَّحِيلِ نَادَى مُنَادِي المَلِكِ: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾. يَعْنِي: يَا أَصْحَابَ الْعِيرِ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ.

أَنْكَرَ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ اتِّهَامَهُمْ بِالسَّرِقَةِ، وَرَدُّوهَا عَنْهُمْ، وَقَالُوا: ﴿تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾.

فَرَدَّ جُنُودُ المَلِكِ: مَا جَزَاءُ السَّارِقِ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ سَرِقَةُ صُوَاعِ المَلِكِ؟

فَرَدَّ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: جَزَاؤُهُ في شَرِيعَتِنَا أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَهَذَا جَزَاؤُهُ، فَمَنْ وُجِدَ في رَحْلِهِ الصُّوَاعُ فَالرِّقُّ جَزَاؤُهُ.

وَهُنَا أَقَامُوا الحُجَّةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾.

﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾:

قَالَ تعالى عَنْ مَوْقِفِ احْتِجَازِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ لِأَخِيهِ: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُفِيدُ بِأَنَّ مَا فَعَلَهُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مِنْ جَعْلِ الصُّوَاعِ في رَحْلِ أَخِيهِ، لِيَأْخُذَ أَخَاهُ مِنْهُمْ هُوَ مِنْ تَدْبِيرِ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ بِرِضَاهُ تعالى وَبِإِذْنِهِ، قَالَ تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.

فَأَخْبَرَ اللهُ تعالى أَنَّ هَذَا كَيْدُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَةَ عَبْدِهِ بِلَطِيفِ العِلْمِ وَدَقِيقِهِ الذي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ سِوَاهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.

فَمِنْ خِلَالِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ نَعْلَمُ بِأَنَّ فِعْلَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ إِنَّمَا كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تعالى، وَبِإِذْنٍ مِنَ اللهِ تعالى، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا الخَضِرُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الغُلَامِ، وَبِنَاءِ الجِدَارِ، وَقَالَ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾.

وَهُنَا يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ لِيُبْعِدَ عَنْهُ الشَّكَّ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ، وَهُنَا أُصِيبَ الجَمِيعُ بِالذُّهُولِ، وَوَقَعَ مَا كَانَ يَتَوَجَّسُ مِنْهُ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَهُنَا حَصَلَ مَا أَرَادَهُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجِزَ أَخَاهُ عِنْدَهُ مُكَرَّمًا غَيْرَ مَهِينٍ، وَتَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ، وَذَلِكَ بِتَدْبِيرِ اللهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾. أَيْ: دَبَّرْنَا لِيُوسُفَ هَذَا التَّدْبِيرَ ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ وَهُوَ الجَلْدُ وَالتَّغْرِيمُ ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾. بِأَنْ أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَةِ إِخْوَتِهِ ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ يَعْنِي: أَنْ يُسْتَرَقَّ ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ يَعْنِي: هَذَا هُوَ حُكْمُهُ عِنْدَنَا.

ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى عَدَالَتَهُ العَامَّةَ في النَّاسِ، فَيَقُولُ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾. أَيْ: نَرْفَعُ دَرَجَاتِ وَمَنَازِلَ في العُلُوِّ مَنْ نَشَاءُ، وَقَدْ رَفَعْنَا يُوسُفَ فَوْقَ إِخْوَتِهِ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَمَدُّوا أَيْدِيهِمْ طَالِبِينَ مِنْهُ المِيرَةَ وَالعَوْنَ، وَأَعْطَيْنَاهُ المُلْكَ وَالعِزَّةَ وَالحِلْمَ، وَتَدْبِيرَ شُؤُونِ الدَّوْلَةِ، حَتَّى صَارَتْ تَمُدُّ غَيْرَهَا ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. وَمَا مِنْ عِلْمٍ بِتَدْبِيرِ الأُمُورِ إِلَّا فَوْقَهُ عِلْمُ اللهِ تعالى، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ عِلْمٍ، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ إِعْلَامٌ لِكُلِّ حَاقِدٍ وَحَاسِدٍ وَمُبْغِضٍ، بِأَنَّ اللهَ تعالى رَافِعٌ عَبْدَهُ المَحْسُودَ مَا دَامَ صَابِرًا تَقِيًّا.

وَأَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَالعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

فَإِنْ كَانَ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِحَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَرَادُوا مَحْوَهُ مِنَ الوُجُودِ حِقْدًا وَحَسَدًا، إِلَّا أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تعالى هِيَ الغَالِبَةُ، فَرَفَعَهُ اللهُ تعالى وَأَوْصَلَهُ إلى قِمَّةِ المَجْدِ ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

مُشْكِلَةُ الحُسَّادِ مُشْكِلَةٌ كَبِيرَةٌ، فَهُمْ يَعْتَرِضُونَ عَلَى اللهِ تعالى، وَلَمْ يَرْضُوا بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ القَائِلِ: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾.

للهِ دَرُّ الحَسَدِ مَا أَعْدَلَهُ، بَدَأَ بِصَاحِبِهِ فَقَتَلَهُ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾

العِلْمُ كَالهَرَمِ المَقْلُوبِ، يَبْدَأُ مِنْ نُقْطَةٍ صَغِيرَةٍ، ثُمَّ يَمْتَدُّ بِالاتِّجَاهَاتِ الثَّلَاثَةِ التي لَا نِهَايَةَ لَهَا، دَرَجَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ نَحْوَ العُلَا، كَعُلُوِّ السَّمَاءِ، فَمَهْمَا ارْتَفَعَ الإِنْسَانُ مَا زَالَتِ السَّمَاءِ فَوْقَهُ، وَيَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ مِنْهَا شَيْئًا.

وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَوِ اجْتَمَعَ الإِنْسُ وَالجِنُّ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ، مَا أَخَذُوا مِنْ عِلْمِ اللهِ تعالى إِلَّا مَا يَأْخُذُ المِخْيَطُ مِنَ البَحْرِ، روى

وَفِي الخِتَامِ: العِلْمُ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، تَرْجِعُ إلى العَالِمِ العَلِيمِ العَلَّامِ، فَكُلُّ عِلْمٍ عِنْدَ البَشَرِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تعالى ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾. وَإِذَا شَاءَ اسْتَرَدَّ كُلَّ شَيْءٍ ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوقِفَنَا عِنْدَ حَدِّنَا، وَأَنْ لَا نَتَجَاوَزَ أَقْدَارَنَا، رَحِمَ اللهُ عَبْدًا عَرَفَ حَدَّهُ فَوَقَفَ عِنْدَهُ.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 16/ شوال /1441هـ، الموافق: 8/ حزيران / 2020م