26ـ سنن الوضوء (3)

26ـ سنن الوضوء (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ذَكَرْنَا في الدَّرْسَيْنِ المَاضِيَيْنِ عَشَرَةً من سُنَنَ الوُضُوءِ، الأُولَى النِّيَّةُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ التَّسْمِيَةُ، ثُمَّ غَسْلُ اليَدَيْنِ إلى الرُّسْغَيْنِ، ثُمَّ المَضْمَضَةُ، ثُمَّ الاسْتِنْشاقُ، ثُمَّ الاسْتِنْثَارُ، ثُمَّ مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ، ثُمَّ مَسْحُ الأُذُنَيْنِ، ثُمَّ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَشُعُورِ الوَجْهِ، ثُمَّ التَّثْلِيثُ.

11ـ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ:

اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ اليَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ في الوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ تَخْلِيلَ الأَصَابِعِ في الوُضُوءِ سُنَّةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ» رواه الترمذي عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، عَنْ أَبِيهِ.

وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ في إِزَالَةِ الدَّرَنِ وَالوَسَخِ مِنْ بَيْنِ الأَصَابِعِ.

وَخَالَفَ في ذَلِكَ فُقَهَاءُ المَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: التَّخْلِيلُ بَيْنَ أَصَابِعِ اليَدَيْنِ وَاجِبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ بَيْنَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ؛ وَقَالُوا: إِنَّمَا وَجَبَ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ اليَدَيْنِ دُونَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ لِعَدَمِ شِدَّةِ الْتِصَاقِهِمَا، فَأَشْبَهَتِ الأَعْضَاءَ المُسْتَقِلَّةَ، بِخِلَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ لِشِدَّةِ الْتِصَاقِهِمَا فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَهُمَا البَاطِنَ.

وَالمَقْصُودُ بِتَخْلِيلِ الأَصَابِعِ هُوَ إِيصَالُ المَاءِ إلى مَا بَيْنَ أَصَابِعِ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

12ـ الاسْتِيَاكُ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ السِّوَاكَ سُنَّةٌ عِنْدَ الوُضُوءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَعِنْدَ الحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلوُضُوءِ.

وَمَعْنَى الاسْتِيَاكِ: تَنْظِيفُ الفَمِ وَالأَسْنَانِ بِالسِّوَاكِ.

السِّوَاكُ سَبَبٌ لِتَطْهِيرِ الفَمِ، وَمُوجِبٌ لِمَرْضَاةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ».

وَهُوَ مِنْ خِصَالِ الفِطْرَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ».

قَالَ زَكَرِيَّا: قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ.

انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي نَضْحَ الفَرْجِ بِالمَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ الحَاجَةِ.

13ـ عَدَمُ الإِسْرَافِ في اسْتِعْمَالِ المَاءِ:

مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ عَدَمُ الإِسْرَافِ في المَاءِ، وَالإِسْرَافُ في الوُضُوءِ يَتَحَقَّقُ في حَالَتَيْنِ:

الأُولَى: تَكْرَارُ غَسْلِ الأَعْضَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ غَسْلَهَا ثَلَاثاً مِنَ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ إِسْرَافاً.

وَاسْتَدَلَّ الفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، بِمَا رواه أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الطُّهُورُ؟

فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثاً، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثاً ثَلَاثاً».

ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ـ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ ـ».

وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّ الوَعِيدَ في الحَدِيثِ لِمَنْ زَادَ أَو نَقَصَ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الثَّلَاثِ سُنَّةً، أَمَّا إِذَا زَادَ مَعَ اعْتِقَادِ سُنِّيَّةِ الثَّلَاثِ لِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ، أَو بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ الوُضُوءَ عَلَى الوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٌ.

الثَّانِيَةُ: اسْتِعْمَالُ المَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيهِ، وَذَلِكَ لِمَا روى ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟».

فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟

قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ».

14ـ التَّيَامُنُ:

اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ التَّيَامُنِ في الوُضُوءِ في اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ التَّيَامُنَ في الوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رواه الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي نَعْلَيْهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ.

وروى الإمام مسلم أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا.

وروى الإمام أحمد وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا لَبِسْتُمْ، وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ، فَابْدَأُوا بِأَيَامِنِكُمْ».

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ التَّيَامُنَ سُنَّةٌ؛ لِثُبُوتِ مُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى وُضُوءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَرَّحُوا بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْكُونَ وُضُوءَهُ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ فَيَكُونُ سُنَّةً.

15ـ إِطَالَةُ الغَرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ:

المُرَادُ بِإِطَالَةِ الغُرَّةِ: غَسْلٌ زَائِدٌ فَوْقَ الْوَاجِبِ مِنَ الْوَجْهِ.

وَأَمَّا إِطَالَةُ التَّحْجِيلِ: فَهُوَ غَسْلٌ زَائِدٌ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

وَالأَصْلُ في ذَلِكَ مَا رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ».

قَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟

قَالَ: «نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».

وَمَا رواه الإمام البخاري عَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ المَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 7/ رجب /1441هـ، الموافق: 2/آذار / 2020م