43ـ ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾

43ـ ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ تُعَلِّمُنَا بِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى حَزِينًا أَنْ يُشَارِكَهُ في الحُزْنِ لَا أَنْ يَلُومَهُ وَيُعَنِّفَهُ.

هَؤُلَاءِ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا قَالَ لَهُمْ وَالِدُهُمْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.

قَالُوا لِأَبِيهِمْ: ﴿تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾. إِجَابَةٌ غَيْرُ مَخَفِّفَةٍ لِآلَامِ وَالِدِهِمْ، بَلْ كَانَتْ مُؤَجِّجَةً لَهَا، كَانَتْ إِجَابَةَ مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِالأَمْرِ في ذَاتِهِ، وَالحَزِينُ يَحْتَاجُ إلى مَنْ يُسَاعِدُهُ وَيُشَارِكُهُ في الحُزْنِ، لَا إلى مَنْ يَلُومُهُ عَلَى حُزْنِهِ.

لَقَدْ أَكَّدَ إخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَبِيهِمْ بِالقَسَمِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَذْكُرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى يُؤَدِّي بِهِ الأَمْرُ أَنْ يَكُونَ في مَرَضٍ دَائِمٍ مُسْتَمِرٍّ يُذِيبُ نَفْسَهُ، وَيَنْتَهِي بِالهَلَاكِ لَا مَحَالَةَ، وَ ﴿أَو﴾ هُنَا بِمَعْنَى الوَاوِ.

عِنْدَمَا قَالُوا هَذَا، أَجَابَهُمْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَجَابَ هَؤُلَاءِ الذينَ يَلُومُونَهُ عَلَى حُزْنِهِ، وَهُمْ سَبَبُهُ في هَذَا الحُزْنِ، أَجَابَ هَؤُلَاءِ الذينَ لَا يُحِسُّونَ بِآلَامِهِ، بِأَنَّهُ لَا يَشْكُو حُزْنَهُ إِلَيْهِمْ، إِنَّمَا يَشْكُو حُزْنَهُ إلى اللهَ تعالى ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾.

﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾:

نَعَمْ لَقَدْ أَجَابَهُمْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ هَذَا الجَوَابَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَشْكُو بَثَّهُ وَحُزْنَهُ إلى مَخْلُوقٍ ضَعِيفٍ، بَلْ يَشْكُو إلى اللهِ تعالى القَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَالبَثُّ: هُوَ الهَمُّ العَارِضُ الذي لَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ في كُلِّ النَّفْسِ، وَيَسُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ أَبْوَابَ السُّرُورِ.

أَمَّا الحُزْنُ فَهُوَ مَا يَكُونُ في النَّفْسِ مِنَ الآلَامِ الدَّفِينَةِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَزِينًا عَلَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدِيمًا، وَبَثُّوا إِلَيْهِ هَمًّا آخَرَ في وَلَدَيْهِ، شَقِيقِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَلَدِهِ الكَبِيرِ.

لِذَا قَالَ لَهُمْ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾. جَاءَهُ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الحَصْرِ ﴿إِنَّمَا﴾ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَشْكُو هُمُومَهُ العَارِضَةَ، وَأَحْزَانَهُ الدَّفِينَةَ القَدِيمَةَ إِلَيْكُمْ، بَلْ يَشْكُوهَا إلى اللهِ تعالى وَحْدَهُ.

ثُمَّ تَمَّ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. إِنَّهَا جُمْلَةٌ تَحْتَوِي جَمِيعَ صُوَرِ الأَمَلِ وَالرَّجَاءِ، فَرَجَاءُهُ مِنَ اللهِ تعالى أَنْ يُحَقِّقَ لَهُ أَمَلَهُ، وَهُوَ عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى كَاشِفٌ كَرْبَهُ، وَمُزِيلٌ هَمَّهُ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِ اللهِ تعالى لَا مِنْ عِلْمِ أَحَدٍ، عَلِمَهُ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللهِ تعالى؛ ثُمَّ بِرَجَائِهِ مِنَ اللهِ تعالى، وَبِسِرِّ رُؤْيَا سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّادِقَةِ، فَفِيهَا أَنَّهُ رَأَى الشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا لَهُ سَاجِدِينَ، وَتَأْوِيلُ الرُّؤْيَا أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في عِزٍّ وَتَمْكِينٍ، وَالكُلُّ يَسْجُدُ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ كَيْفَ يَجُوزُ لِنَبِيٍّ كَرِيمٍ كَسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ الحُزْنُ ذَلِكَ المَبْلَغَ.

الجَوَابُ: الإِنْسَانُ مَجْبُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ مِنَ الحُزْنِ، لِأَنَّ القَلْبَ مُنْفَعِلٌ وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ، وَكَذَلِكَ العَيْنُ مُنْفَعِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِفَاعِلَةٍ، مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ بَكَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لِذَلِكَ قَالُوا: الحُزْنُ مِنْهُ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ مَقْبُولٌ، فَمَا كَانَ فِيهِ انْضِبَاطٌ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَا يُلَامُ صَاحِبُهُ، وَأَمَّا الحُزْنُ المَذْمُومُ هُوَ الذي يَقَعُ مِنَ العَبْدِ مِنْ صِيَاحٍ، وَنِيَاحٍ، وَضَرْبٍ، وَلَطْمِ الصُّدُورِ وَالوُجُوهِ، وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّبْرِ الجَمِيلِ، وَبَيْنَ التَّعَلُّقِ بِاللهِ القَدِيرِ، فَفَرَّ إلى مَنْ بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الفَرَجِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مَنْ أَوَى إلى اللهِ تعالى كَفَاهُ، فَالفَزَعُ إلى اللهِ تعالى عِنْدَ نُزُولِ المَصَائِبِ يَرْبِطُ عَلَى القَلْبِ، وَيُقَرِّبُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَيُخَفِّفُ مِنْ وَطْأَةِ المُصِيبَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا هُوَ دَأْبُ الصَّالِحِينَ في كُلِّ زَمَانٍ، وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلى الصَّلَاةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد قَالَ حُذَيْفَةُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

إِذَا أَرْهَـقَـتْـكَ هُـمُـومُ الحَـيَـاةِ    ***   وَمَسَّكَ مِنْهَا عَظِيمُ الـضَّرَرْ

وَذُقْتَ الأَمَرَّيْنِ حَـتَّـى بَـكَـيْتَ    ***   وَضَــجَّ فُؤَادُكَ حَتَّى انْفَجَرْ

وَسُدَّتْ بِوَجْهِكَ كُـلُّ الـدُّرُوبِ   ***   وَأَوْشَكْتَ تَسْقُطُ بَيْنَ الحُفَرْ

فَـيَـمِّــمْ إلى اللهِ في لَـهْـفَــــــةٍ    ***   وَبُثَّ الشُّـــكَاةَ لِرَبِّ البَشَرْ

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 26/ محرم /1442هـ، الموافق: 14/ أيلول / 2020م