68ـ الحرص على هدايتهما (1)

68ـ الحرص على هدايتهما (1)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا أَنَّ الوَالِدَيْنِ حَرِيصَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا، وَعَلَى هِدَايَتِهِ، وَعَلَى دِينِهِ وَصَلَاحِهِ وَتُقَاهُ، فَعَلَى الوَلَدِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا هُوَ الآخَرُ عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ، كَحِرْصِهِ عَلَى هِدَايَةِ نَفْسِهِ وَصَلَاحِهِ هُوَ.

حِرْصُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى هِدَايَةِ أَبِيهِ:

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾.

فَفِي هَذِهِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ حَيْثُ تَدَرَّجَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ، حَيْثُ سَأَلَهُ لِمَ يَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا.

ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ ـ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ ـ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُ مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ، حَتَّى يَهْدِيَهُ الصِّرَاطَ السَّوِيَّ.

ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خُطُورَةَ تَمَادِيهِ في عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ الذي سَوَّلَ لَهُ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الذي سَوَّلَ لَهُ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ مُخَالِفٌ وَمُسْتَكْبِرٌ وَعَاصٍ لِرَبِّهِ تعالى، وَقَدْ طَرَدَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَحْمَتِهِ، لِذَا لَا تَتَّبِعْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ بَقِيتَ مُتَّبِعًا لَهُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَنَالَكَ عَذَابٌ مِنَ اللهِ تعالى، وَلَا يَكُونَ لَكَ مَوْلًى وَنَاصِرًا إِلَّا الشَّيْطَانُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَلَا إلى غَيْرِهِ.

وَلَمَّا هَدَّدَهُ أَبُوهُ بِالرَّجْمِ وَالطَّرْدِ وَالسَّبِّ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ هَجْرَهُ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَابَلَهُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُنْتَهَى اللُّطْفِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأَدْعُو رَبِّي سُبْحَانَهُ وتعالى وَلَا أَعْبُدُ سِوَاهُ، فَكَانَ سَيِّدَ الأَنْبِيَاءِ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَبَقِيَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لِأَبِيهِ، حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تعالى، وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ عَلَى الكُفْرِ، فَتَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُ.

حِرْصُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِدَايَةِ عَمِّهِ:

وَهَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرِيصًا كُلَّ الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ عَمِّهِ، لِأَنَّ العَمَّ أَبٌّ، روى الإمام مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ».

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟

فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ».

فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.

وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، مُبَيِّنا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِهدَايَةَ بِيَدِ اللهِ تَعَالى فَقَال تَعَالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حِرْصُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاضِحٌ وَصَرِيحٌ في هَذَا الحَدِيثِ، حَيْثُ كَرَّرَ عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُكْتَفِيًا مِنْهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْهَا، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، لَمْ يَقْطَعْ رَجَاءَهُ مِنْ نَجَاتِهِ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ». وَهَذَا حِرْصٌ آخَرُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ احْتِيَاطٍ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ بِنُزُولِ الآيَةِ.

مِنْ هَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ الحِرْصَ عَلَى هِدَايَةِ الأَبَوَيْنِ ـ إِنْ كَانَا لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى عَلَى غَيْرِ الهِدَايَةِ ـ وَهَذَا مِنَ الوَفَاءِ، لِأَنَّ مِنْ سَعَادَةِ العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنْ يَجْمَعَ اللهُ تعالى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ في الجَنَّةِ، لِيَنْدَرِجُوا جَمِيعًا تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا جَمِيعًا مَعَ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا وَأَزْوَاجِنَا في جَنَّةِ الخُلْدِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 3/ صفر /1442هـ، الموافق: 20/ أيلول / 2020م