46ـ وصية أبي الدرداء (3)

46ـ وصية أبي الدرداء (3)

لمن تقطعت قلوبهم حسرة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

مَا أَكْرَمَ النَّاصِحَ وَالمُذَكِّرَ بِحُقُوقِ اللهِ تعالى عَلَى خَلْقِهِ، مَا أَعْظَمَ النَّاصِحَ الذي يَكُونُ حَرِيصاً عَلَى سَلَامَةِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ.

اذْكُرِ اللهَ في السَّرَّاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جَاءَ في كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِي داود: عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي.

فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: اذْكُرِ اللهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكِ فِي الضَّرَّاءِ، وَإِذَا ذَكَرْتَ الْمَوْتَى فَاجْعَلْ نَفْسَكَ كَأَحَدِهِمْ، وَإِذَا أَشْرَفَتْ نَفْسَكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَانْظُرْ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ. اهـ.

مَا أَجْمَلَ طَلَبَ هَذَا الرَّجُلِ الوَصِيَّةَ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، مِنَ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ، مِنَ الأَتْقِيَاءِ الصَّالِحِينَ، كَسَيِّدِنَا أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ بَلْ مَا أَحْسَنَ جَوَابَ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَهُ؟!

هَذِهِ الوَصِيَّةُ مِنْ سَيِّدِي أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَضَمَّنَتْ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الأَدْوِيَةِ، لِمَنْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ حَسْرَةً، أَو تَحَجَّرَتْ قَسْوَةً، أَو ذَابَتْ كَمَداً عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ لُعَاعَةِ الدُّنْيَا.

أَوَّلُ هَذِهِ الأَدْوِيَةِ وَالوَصَايَا: ذِكْرُ اللهِ فَقَالَ لَهُ: اذْكُرِ اللهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ فِي الضَّرَّاءِ؛ حَيْثُ أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِالإِكْثَارِ مِن الذِّكْرِ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾. لِأَنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى يُذِيبُ قَسْوَةَ القَلْبِ، وَيُعَلِّقُهَا بِعَلَّامِ الغُيُوبِ، وَيَجْعَلُهَا آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

ذِكْرُ اللهِ تعالى يَجْعَلُ الذَّاكِرَ في كَرَامَةِ المَذْكُورِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ».

لَقَدْ نَبَّهَنَا سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى بَرَكَةِ ذِكْرِ اللهِ تعالى، وَخَاصَّةً في الـسَّـرَّاءِ لِنَجِدَ أَثَرَهَا في الضَّرَّاءِ، وَجَزَى اللهُ تعالى عَنَّا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قَالَ لَنَا نَاصِحاً وَمُبَيِّناً: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» رواه الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

ثَانِي هَذِهِ الأَدْوِيَةِ وَالوَصَايَا:

ذِكْرُ المَوْتِ وَالبِلَى، فَقَالَ لَهُ: وَإِذَا ذَكَرْتَ الْمَوْتَى فَاجْعَلْ نَفْسَكَ كَأَحَدِهِمْ؛ وَهَذِهِ الوَصِيَّةُ مِنْ وَصَايَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يَعْنِي الْمَوْتَ. رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مِئَاتِ الوَصَايَا التي أَوْصَى بِهَا السَّلَفُ أَصْحَابَهُمْ.

يَقُولُ سَيِّدِي أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في مَوْطِنٍ آخَرَ: إِنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ قَلَّ حَسَدُهُ وَبَغْيُهُ. /الزُّهْد لأحمد بن حنبل.

وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَا أَكْثَرَ عَبْدٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إِلَّا رَأَى ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ، وَلَا طَالَ أَمَلُ عَبْدٍ قَطُّ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ. /الزُّهْد لأحمد بن حنبل.

وَيَقُولُ سَيِّدِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَوْ فَارَقَ ذِكْرُ الْمَوْتِ قَلْبِي خَشِيتُ أَنْ يَفْسُدَ عَلَيَّ قَلْبِي». /الزُّهْد لأحمد بن حنبل.

وَيَقُولُ سَيِّدِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَعْقِلُ مِنَ الْمَوْتِ مَا تَعْقِلُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِيناً. / حلية الأولياء.

وَيُذْكَرُ بِأَنَّ أَبَا العَتَاهِيَةَ دَخَلَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عِظْنِي بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ وَأَوْجِزْ، فَأَنْشَدَهُ:

لَا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَـرَفٍ وَلَا نَفَسٍ   ***   وَلَو تَمَتَّعْتَ بِالحُجَّابِ وَالحَـرَسِ

وَاعْـلَـمْ بِـأَنَّ سِـهَامَ المَوْتِ صَـائِبَةٌ   ***   لِـكُـلِّ مُـدَّرِعٍ مِـنْـهَــا وَمُتَّرِسِ

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَـالِـكَهَا   ***   إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ

قَالَ: فَخَرَّ الرَّشِيدُ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ. /البداية والنهاية.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ المَوْتِ، أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ، تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ، وَقَنَاعَةِ القَلْبِ، وَنَشَاطٍ في العِبَادَةِ.

وَمَنْ نَسِيَ المَوْتَ عُوقِبَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، وَتَرْكِ الرِّضَا بِالكَفَافِ، وَالتَّكَاسُلِ في العِبَادَةِ.

ثَالِثُ هَذِهِ الأَدْوِيَةِ وَالوَصَايَا:

تَذَكَّرْ مَصِيرَ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ: وَإِذَا أَشْرَفَتْ نَفْسَكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَانْظُرْ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ.

إي وَرَبِّي، إِنَّهَا لَسَلْوَةٌ، وَأَيُّ سَلْوَةٍ؟! فَمَنْ تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ، أَو أَشْرَفَتْ عَلَى شَيءٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا حَتَّى تَأَثَّرَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، فَلْيُبَادِرْ إلى تَذَكُّرِ مَصِيرِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا التي قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

لِذَلِكَ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُكْثِرُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الوَصَايَا، فَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا أَكَلْتُمْ طَعَاماً عَلَى شَهْوَةٍ أَبَداً، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَاباً عَلَى شَهْوَةٍ أَبَداً، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتاً تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ أَبَداً، وَلَبَرَزْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَلْزَمُونَ صُدُورَكُمْ وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ.

ثُمَّ قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ أُعْضَدُ فِي كُلِّ عَامٍ وَأُؤْكَلُ. الزهد لأبي داود.

وَقَالَ مَرَّةً وَهُوَ يَعِظُ أَهْلَ دِمَشْقَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، اسْمَعُوا قَوْلَ أَخٍ لَكُمْ نَاصِحٍ، مَالِي أَرَاكُمْ تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتُؤَمِّلُونَ مَا لَا تُدْرِكُونَ، وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ جَمَعُوا كَثِيراً، وَبَنَوْا شَدِيداً، وَأَمَّلُوا طَوِيلاً، فَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُوراً، وَمَسَاكِنُهُمْ وَمَالُهُمْ غُرُوراً. رواه البيهقي.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَحْوَجَنَا إلى صَدِيقٍ صَدُوقٍ نَاصِحٍ، وَمَا أَحْوَجَنَا إلى التَّنَاصُحِ، فَهَلْ بِوُسْعِنَا أَنْ نَجْعَلَ مِنْ هَذِهِ الوَصَايَا رَسَائِلَنَا عَلَى أَجْهِزَةِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يَهْدِيَنَا وَيَهْدِيَ بِنَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 3/ رجب /1441هـ، الموافق: 27/ شباط / 2020م