56ـ آداب المريض (1)

56ـ آداب المريض (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا يُقَدِّرُ نِعْمَةَ اللهِ تعالى إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا، فَالصِّحَّةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا، لَا يُقَدِّرُهَا إِلَّا المَرْضَى، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ قَدْ غَفَلْنَا عَنْهَا؟ وَكَمْ مِنَ النِّعَمِ قَدْ قَصَّرْنَا بِوَاجِبِ شُكْرِهَا، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدْ يَبْتَلِي اللهُ تعالى العَبْدَ بِالمَرَضِ، فَإِذَا جَاءَ المَرَضُ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ فَلَا يَسَعُ العَبْدَ إِلَّا أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ اللهِ تعالى فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ.

آدَابُ المَرِيضِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ جُمْلَةِ آدَابِ المَرِيضِ مَعَ اللهِ تعالى:

أولاً: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:

يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ المُؤْمِنُ بِأَنَّ المَرَضَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ اللهَ تعالى هُوَ المُقَدِّرُ، وَالمُقَدَّرُ كَائِنٌ لَا يَنْمَحِي، قَالَ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾.

ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾.

وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ بِأَنَّ الشَّافِيَ إِنَّمَا هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين﴾.

ثانياً: أَنْ يَأْخُذَ الدَّوَاءَ:

لِأَنَّ أَخْذَ الدَّوَاءِ مَشْرُوعٌ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» رواه أبو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثالثاً: أَنْ يَرْقِيَ نَفْسَهُ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي. رواه الإمام مسلم.

رابعاً: أَنْ يَمْسَحَ المَرِيضُ بِيَدِهِ اليُمْنَى مَكَانَ دَائِهِ:

روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمَاً».

وَروى الإمام مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَعَاً يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ ثَلَاثَاً، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ».

خامساً: تَرْكُ الشَّكْوَى وَالتَّحَلِّي بِالصَّبْرِ:

مِنَ السُّنَةِ في حَقِّ المَرِيضِ تَرْكُ الشَّكْوَى وَأَنْ يَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ، لِأَنَّ البَلَاءَ عَلَى قَدْرِ المَقَامِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكَاً شَدِيدَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ».

قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ».

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَىً مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيَاً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرَاً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرَاً لِي».

سادساً: أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ:

عَلَى المَرِيضِ أَنْ يَتَذَكَّرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾.

وَلْيَتَذَكَّرْ هَذَا العَبْدُ المُبْتَلَى قِصَّةَ سَيِّدِنَا عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خَرَجَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ إلى الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، فَخَرَجَتْ بِرِجْلِهِ آكِلَةٌ فَقَطَعَهَا، وَسَقَطَ ابْنٌ لَهُ عَنْ ظَهْرِ بَيْتٍ، فَوَقَعَ تَحْتَ أَرْجُلِ الدَّوَابِّ فَقَطَعَتْهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُعَزِّيهِ.

فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تُعَزِّينِي؟ وَلَمْ يَدْرِ بِابْنِهِ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ابْنُكَ يَحْيَى قَطَعَتْهُ الدَّوَابُّ.

قَالَ: وَايْمُ اللهِ لَئِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ، لَقَدْ أَعْطَيْتَ، وَلَئِنْ كُنْتَ ابْتَلَيْتَ لَقَدْ عَافَيْتَ، وَقَالَ: ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبَاً﴾ /تهذيب الكمال.

وَيَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الحُزْنِ بِمَسَامِيرِ الرِّضَا عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّكُمْ إِذَا أَلِفْتُمُ الحُزْنَ وَعَشِقْتُمُوهُ أَدَامَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي كُلَّ عَبْدٍ بُغْيَتَهُ، فَمَنْ أَرَادَ الرِّضَا عَنِ اللهِ في قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ مَنَحَهُ اللهُ إِيَّاهُ، وَمَنْ أَرَادَ الحُزْنَ ـ لَا قَدَّرُ اللهُ تعالى ـ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.

وَانْظُرُوا إلى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ وَاسْمُهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، ابْتَلَاهُ اللهُ بِالمَرَضِ ثَلَاثِينَ عَامَاً، وَكَانَ قَدِ اسْتَسْقَى بَطْنُهُ، فَبَقِيَ مُلْقَىً عَلَى ظَهْرِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ، قَدْ نُقِبَ لَهُ في سَرِيرٍ مِنْ جَرِيدٍ كَانَ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُطَرِّفٌ وَأَخُوهُ العَلَاءُ، فَجَعَلَ يَبْكِي لِمَا يَرَاهُ مِنْ حَالِهِ.

فَقَالَ: لِمَ تَبْكِي؟

قَالَ: لِأَنِّي أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الحَالَةِ العَظِيمَةِ.

قَالَ: لَا تَبْكِ، فَإِنَّ أَحَبَّهُ إلى اللهِ تعالى أَحَبُّهُ إِلَيَّ. /إحياء علوم الدين.

نَسْأَلُ اللهَ تعالى العَافِيَةَ وَدَوَامَهَا مَعَ كَمَالِ الاسْتِقَامَةِ حَتَّى نِهَايَةِ الأَجَلِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 9/ رجب /1441هـ، الموافق: 4/ آذار / 2020م