47ـ وصية أبي الدرداء (4)

47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لا تحقرن شيئًا من الشر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مَوَاعِظِ سَيِّدِنَا أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالتي تُصْلِحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا قَوْلُهُ: لَا تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ أَنْ تَتَّقِيَهُ، وَلَا شَيْئاً مِنَ الْخَيْرِ أَنْ تَفْعَلَهُ. /الزهد والرقائق لابن المبارك.

التَّحْذِيرُ مِنْ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَذِّرُنَا مِنَ الاسْتِهَانَةِ بِالذُّنُوبِ وَلَو كَانَتْ صَغِيرَةً، لِأَنَّ في ذَلِكَ مِنَ الخَطَرِ وَالضَّرَرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى.

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ.

لَقَدْ سَمِعَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يَقُولُ فِيهِ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

الوُقُوعُ في الصَّغَائِرِ مَعَ الإِصْرَارِ عَلَيْهَا تَنْقَلِبُ إلى كَبِيرَةٍ، وَتَجْعَلُ الرَّانَ عَلَى القَلْبِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ سُقِلَ مِنْهَا قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلَقَ بِهَا قَلْبُهُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾».

مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ حَذَّرَ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنِ احْتِقَارِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ في ذَلِكَ هَلَاكُ العَبْدِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَهِينُ بِمَحَارِمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَهْمَا دَقَّتْ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.

لَا تَسْتَهِنْ بِمَحَارِمِ اللهِ تعالى مَهْمَا دَقَّتْ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا البَقَرَ وَالإِبِلَ وَالمَتَاعَ وَالحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي القُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ ـ أَيْ: حَائِدٌ عَنْ قَصْدِهِ لا يَدْري مِنْ أَيْنَ أَتَى ـ، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ العَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئاً لَهُ الشَّهَادَةُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ، وَالَّذِي نَـفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً».

فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ ـ أَوْ شِرَاكَانِ ـ مِنْ نَارٍ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا أَنَّ الشَّخْصَ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَغْتَرَّ بِسَعَةِ عَفْوِ اللهِ تعالى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.

لَيْسَ للمَعْرُوفِ حَدٌّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ لَا نَحْقِرَ شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ، كَذَلِكَ عَلَّمَنَا أَنْ لَا نَحْقِرَ مِنَ الخَيْرِ وَالمَعْرُوفِ شَيْئاً، وَخَاصَّةً في تَفْرِيجِ كَرْبِ إِنْسَانٍ، لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّ المُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ أَنْ يَتَأَلَّمَ لِأَلَمِهِ، وَيَحْزَنَ لِحُزْنِهِ، وَيُعِينَهُ عَلَى دَفْعِ كُرْبَتِهِ.

إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى حِينَ خَلَقَ المَعْرُوفَ أَنْ خَلَقَ لَهُ أَهْلاً فَحَبَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ إِسْدَاءَهُ، وَوَجَّهَهُمْ إِلَيْهِ كَمَا وَجَّهَ المَاءَ إلى الأَرْضِ المَيْتَةِ فَتَحْيَا بِهِ، وَيَحْيَا بِهِ أَهْلُهَا، وَإِنَّ اللهَ تعالى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ خَيْراً جَعَلَ قَضَاءَ حَوَائِجِ النَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ، وَمَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ اللهِ تعالى كَثُرَ تَعَلُّقُ النَّاسِ بِهِ، فَإِنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ للهِ فِيهَا فَقَدْ شَكَرَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَصَّرَ وَمَلَّ وَتَبَرَّمَ فَقَدْ عَرَّضَهَا للزَّوَالِ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ عَنْهُ، روى البيهقي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ أَقْوَاماً اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ».

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

وَخَـيْرُ عِبَادِ اللهِ أَنْفَعُهُمْ لَهُمْ   ***   رَوَاهُ مِنَ الأَصْحَابِ كُلُّ فَقِيه

وَإِنَّ إِلَهَ العَرْشِ جَلَّ جَلَالُهُ   ***   يُـعِينُ الفَتَى مَا دَامَ عَوْنَ أَخِيهِ

فَهَنِيئاً لِمَنْ يُسَارِعُ في صَنَائِعِ المَعْرُوفِ وَقَضَاءِ الحَوَائِجِ مَهْمَا كَانَ قَلِيلاً هَذَا المَعْرُوفُ في نَظَرِ النَّاسِ، فَإِنَّ العَبْدَ لَا يَعْلَمُ أَجْرَ صَانِعِ المَعْرُوفِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَهْمَا قَلَّ.

فَلَيْسَ للمَعْرُوفِ حَدٌّ، وَ لَا يُقْتَصَرُ أَجْرُ بَذْلُ المَعْرُوفِ عَلَى بَنِي آدَمَ فحسب، بل يشملُ الإِحْسَانَ للبَهَائِمَ وَالحَيَوَانَ، فَالرِّحْمَةُ في دِينِنَا شَمَلَتِ البَهَائِمَ حَتَّى القِطَطَ وَالكِلَابَ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيّاً رَأَتْ كَلْباً فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ وَبَذْلُ المَعْرُوفِ لِكَلْبٍ مِنِ امْرَأَةٍ بَغِيٍّ أَوْجَبَ لَهَا مَا أَوْجَبَ، أَلَا تَكُونُ الرَّحْمَةُ وَبَذْلُ المَعْرُوفِ وَالإِحْسَانُ للمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ وَأَنْفَعَ؟ فَالمَعْرُوفُ وَصَنَائِعُ المَعْرُوفِ تُثْمِرُ حَتَّى مَعَ البَهَائِمِ العَجْمَاوَاتِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نِعْمَتِ الوَصِيَّةُ وَصِيَّةُ سَيِّدِي أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَا تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ الـشَّرِّ أَنْ تَتَّقِيَهُ، وَلَا شَيْئاً مِنَ الْخَيْرِ أَنْ تَفْعَلَهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَلِتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 10/ رجب /1441هـ، الموافق: 5/ آذار / 2020م