72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ وَهُوَ يَبْحَثُ عَنْ حَقِّ وَالِدَيْهِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾. تَدَبُّرًا جَيِّدًا.

لِمَاذَا خَصَّ اللهُ تعالى الكِبَرَ بِالذِّكْرِ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾. مَعَ أَنَّ المَطْلُوبَ مِنَ الإِنْسَانِ الإِحْسَانُ إلى وَالِدَيْهِ في سَائِرِ الأَحْوَالِ؟

السِّرُّ بِتَخْصِيصِ ذِكْرِ الكِبَرِ:

لَقَدْ خَصَّ اللهُ تعالى ذِكْرَ الكِبَرِ في قَوْلِهِ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾. لِمَا يَلي:

أولًا: إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مُرَاعَاةَ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا أَلْزَمَهُ مِنْ قَبْلُ، فَيَحْتَاجَانِ أَنْ يَلِيَ مِنْهُمَا في الكِبَرِ مَا كَانَ يَحْتَاجُ في صِغَرِهِ أَنْ يَلِيَا مِنْهُ، فَلِذَلِكَ خَصَّ هَذِهِ الحَالَةَ بِالذِّكْرِ.

ثانيًا: إِنَّ طُولَ المُكْثِ للمَرْءِ يُوجِبُ الاسْتِثْقَالَ للمَرْءِ عَادَةً، وَيَحْصُلُ المَلَلُ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ البُنُوَّةِ وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ؛ وَأَقَلُّ المَكْرُوهِ: مَا يَظْهَرُ بِتَنَفُّسِهِ المُتَرَدِّدِ مِنَ الضَّجَرِ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالقَوْلِ المَوْصُوفِ بِالكَرَامَةِ، وَهُوَ السَّالِمُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَقَالَ تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾. أَفَادَهُمَا القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

ثالثًا: إِنَّ تَقَدُّمَ السِّنِّ يَجْعَلُ الإِنْسَانَ يَصِلُ إلى حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ كَالصَّغِيرِ تَمَامًا، يَتَأَثَّرُ بِأَقَلِّ القَلِيلِ، بَلْ أَشَدَّ، وَيَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَأَثَّرُ مِنْهُ، لِهَذَا نَاسَبَ عَدَمَ التَّأَفُّفِ وَالضَّجَرِ مِنْهُ وَالنَّهْرِ، لِأَنَّ هَذَا يُزْعِجُهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَو كَانَا في حَالِ القُوَّةِ مِنْ رُجُولَةٍ أَو كُهُولَةٍ، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَأَثَّرَا بِنَفْسِ الدَّرَجَةِ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ القُدْرَةَ عَلَى الرَّدِّ وَالرَّفْضِ وَالزَّجْرِ.

وَلِهَذَا فَإِنَّ بَعْضَ الوَالِدَينَ ـ بِتَقَدُّمِ سِنِّهِمَا ـ تَكْثُرُ مَطَالِبُهُمَا، وَتَتَغَيَّرُ أَخْلَاقُهُمَا، وَتَضِيقُ تَصَوُّرَاتُهُمَا، وَتَضْعُفُ مَدَارِكُهُمَا، لِذَا فَإِنَّهُمَا يَحْتَاجَانِ إلى العَطْفِ وَالمُدَارَاةِ، وَأَنْ يُجَنَّبَ عَنْهُمَا كُلُّ مَا يُثِيرُهُمَا أَوْ يُزْعِجُهُمَا، وَإِنْ كَانَ التَّأَفُّفَ أَو الضَّجَرَ أَو النَّهْرَ.

رابعًا: إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى عِنْدَمَا طَلَبَ مِنَ الوَلَدِ الإِحْسَانَ إلى وَالِدَيْهِ ـ وَالإِحْسَانُ فَوْقَ العَدْلِ ـ لِأَنَّ الوَلَدَ إِنْ عَامَلَ وَالِدَيْهِ بِمِثْلِ مَا كَانَا يُعَامِلَانِهِ ـ فَهُوَ العَدْلُ ـ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الوَالِدَانِ هُمَا السَّابِقَيْنِ للخَيْرِ، لِذَا فَإِنَّهُمَا يَتَقَدَّمَانِ عَلَيْهِ، لِذَا طُلِبَ مِنْهُ الإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا لِيُقَابِلَ السَّبْقَ بِالخَيْرِ.

وَالأَمْرُ الآخَرُ لَمَّا كَانَ العَدْلُ نَفْسُهُ مُتَعَذِّرًا ـ وَذَلِكَ لِأَنَّ الوَالِدَ حِينَمَا يُحْسِنُ إلى الوَلَدِ فَإِنَّهُ بِإِحْسَانِهِ يَتَمَنَّى لَهُ الاسْتِمْرَارَ، لِأَنَّهُ بِهِ سَعَادَتُهُ وَبَقَاؤُهُ وَحَيَاتُهُ، بِخِلَافِ إِحْسَانِ الوَلَدِ إلى وَالِدِهِ، لِذَا طُلِبَ مِنْهُ الإِحْسَانُ لِيَكُونَ العَدْلُ.

يُضَافُ إلى ذَلِكَ: لَمَّا كَانَ العَدْلُ مَطْلُوبًا شَرْعًا ـ وَكَذَا الإِحْسَانُ ـ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾. وَالعَدْلُ في مُعَامَلَةِ الوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ غَالِبًا مُتَعَذِّرٌ، مَعَ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ شَرْعًا تَحْقِيقُهُ، لِذَا أُمِرَ بِالإِحْسَانِ ـ الذي هُوَ فَوْقَ العَدْلِ ـ لِيَتَحَقَّقَ العَدْلُ المَطْلُوبُ شَرْعًا، وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

وَمِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الوَالِدَ تَحَمَّلَ مِنَ الوَلَدِ مَا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ الوَلَدُ مِنْ وَالِدِهِ، فَالمُعَامَلَةُ بِالمِثْلِ ـ وَهُوَ حُسْنُ المُعَامَلَةِ في حَالِ الكِبَرِ ـ وَذلِكَ لِأَنَّ الوَالِدَيْنِ لَا يَحْتَاجَانِ إلى الوَلَدِ وَعَطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ وَشَفَقَتِهِ في حَالِ قُوَّتِهِمَا وَطَاقَتِهِمَا، فَهُمَا يَعْتَمِدَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى عَلَى قُوَّتِهِمَا، إِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ في حَالِ الشَّيْخُوخَةِ وَالهَرَمِ، بِحَيْثُ يَصِيرَانِ إلى حَالَةٍ تَشْبِهُ حَالَةَ الوَلَدِ عِنْدَمَا كَانَ صَغِيرًا، مُحْتَاجًا إلى عَطْفِهِمَا وَشَفَقَتِهِمَا وَإِحْسَانِهِمَا، لِذَا كَانَ مِنْ بَابِ الجَزَاءِ بِالمِثْلِ.

خامسًا: إِنَّ الوَالِدَيْنِ في حَالِ قُوَّتِهِمَا لَا يَتَأَثَّرَانِ مِنْ ضَجَرِ أَو تَأَفُّفِ أَو نَهْرِ الوَلَدِ ـ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُكْتَرِثَيْنِ بِهِ غَالِبًا ـ بَيْنَمَا التَّأَثُّرُ في حَالِ الكِبَرِ ﴿أَرْذَلِ العُمُرِ﴾. لِذَا كَانَ الأَمْرُ بِعَدَمِ صُدُورِ ذَلِكَ مِنَ الوَلَدِ مُرَاعَاةً لِخَاطِرِهِمَا وَشُعُورِهِمَا وَسَابِقِ فَضْلِهِمَا وَإِحْسَانِهِمَا، كَيْفَ وَهُمَا سَبَبُ وُجُودِهِ في هَذِهِ الدُّنْيَا.

سادسًا: لِذَا جَاءَتِ النُّصُوصُ مِنَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في بَيَانِ عُقُوبَةِ الوَلَدِ الذي يَبْلُغُ وَالِدَاهُ عِنْدَهُ الكِبَرَ وَلَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ كِبَرُهُمَا سَبَبًا لَهُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ».

قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ».

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السَّعِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ لِاغْتِنَامِ هَذِهِ الفُرْصَةِ ـ فًرْصَةِ بِرِّهِمَا قَبْلَ أَنْ تَفُوتَهُ بِمَوْتِهِمَا ـ فَيَنْدَمَ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ النَّدَمِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ عَقَّهُمَا ـ خَاصَّةً في كِبَرِهِمَا ـ لَا سِيَّمَا مَنْ بَلَغَهُ الأَمْرُ مِنَ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ المُصْطَفَى الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِبِرِّهِمَا، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا.

أَسْأَلُهُ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِبِرِّهِما، وَأَنْ يَرْضَى عَنْهُما، وَأَنْ يَحْشُرَنَا جَمِيعًا في مَقْعَدِ صِدْقٍ، إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 15/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 1/ تشرين الثاني / 2020م