25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ وَتَمَهُّلٍ طَوِيلٍ، قَرَّرَ قَرَارًا مُتَنَاقِضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاخِلِهِ، فَقَالَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذَّابٌ في هَذَا القَرَارِ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾. مَعَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ قَبْلَ هَذَا القَرَارِ: وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوَ وَلَا يُعْلَى. /كذا في البداية والنهاية.

وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سمعتُ قَوْلًا وَاللهِ مَا سَمِعْتُ مثلَه قطُّ، وَاللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ العَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى العَرَبِ فَمُلُكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ؛ قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ؛ قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. / سيرة ابن هشام.

بَعْدَ هَذَا القَرَارِ النِّهَائِيِّ، اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإِلَهِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنْ يُظْهِرَ نَتِيجَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾:

سَأُصْلِيهِ: أَيْ: سَأُعَذِّبُهُ بِالحَرِيقِ، يُقَالُ لُغَةً: صَلِيَ النَّارَ، وَصَلِيَ بِهَا، إِذَا احْتَرَقَ فِيهَا، وَلَامَسَ لَهَبُهَا جَسَدَهُ مُحْرِقًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: أَصْلَاهُ في النَّارِ وَأَصْلَاهُ بِهَا، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِيهَا لِيَحْتَرِقَ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: صَلَّاهُ، وَمِنْهُ: ﴿ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾.

سَقَرَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ دَارِ العَذَابِ يَوْمَ الدِّينِ، وَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ بِاسْمِ سَقَرَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا وَشِدَّةِ حَرِّهَا، فَالسَّقْرُ: البُعْدُ، وَيُقَالُ لُغَةً: سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ إِذَا ضَرَبَتْ دِمَاغَهُ بِحَرِّهَا وَأَذَابَتْهُ.

فَمَعْنَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾. سَأُدْخِلُهُ جَهَنَّمَ لِيَحْتَرِقَ فِيهَا، وَيَذُوقَ عَذَابَ الحَرِيقِ بِالنَّارِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَقَرَ اسْمٌ للطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: هِيَ الطَّبَقَةُ الخَامِسَةُ.

فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ: 1ـ جَهَنَّمُ 2ـ لَظَى 3ـ الحُطَمَةُ 4ـ السَّعِيرُ 5ـ سَقَرُ 6ـ الجَحِيمُ 7ـ الهَاوِيَةُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾. هَذِهِ العِبَارَةُ وَأَشْبَاهُهَا في القُرْآنِ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ التَّعْجِيبِ القُرْآنِيَّةِ المُبْتَكَرَةِ ضِمْنَ قَوَاعِدِ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ، وَالمَعْنَى: أَعْظِمْ بِأَمْرِ سَقَرَ إِعْظَامًا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ دِرَايَتُكَ مَهْمَا فَكَّرْتَ وَسَبَحْتَ في تَصَوُّرَاتِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ في خِبْرَاتِكَ وَلَا في تَصَوُّرَاتِكَ شَيْءٌ، يَجْعَلُكَ تَقِيسُ هَذَا الأَمْرَ عَلَيْهِ، وَالخِطَابُ في ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ مُوَجَّهٌ بِالإِفْرَادِ لِكُلِّ صَالِحٍ للخِطَابِ.

وَتَحْلِيلُ هَذِهِ العِبَارَةِ وَنَظَائِرُهَا عَلَى الوَجْهِ التَّالِي:

وَأَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا سَقَرُ؟! أَيْ: أَنْتَ لَا تَدْرِي عَظَمَةَ سَقَرَ وَهَوْلَ أَمْرِهَا، إِلَّا إِذَا أَعْلَمْنَاكَ بِذَلِكَ؛ ﴿مَا﴾ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَهُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ شِدَّةِ هَوْلِ سَقَرَ وَعَظَمَتِهَا.

﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾. مَا المُرَادُ بِأَنَّ سَقَرَ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ؟

هَلِ المُرَادُ: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ شَيْئًا دَخَلَهَا إِلَّا أَحْرَقَتْهُ وَأَفْنَتْهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهَا؟ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ تَعْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ شِدَّةِ حَرَارَتِهَا التي تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُفْنِي كُلَّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهَا، فَيَزِيدُهَا حَرًّا، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الدَّاخِلِ فِيهَا المُعَذَّبُونَ، إِذْ يُجَدِّدُ اللهُ خَلْقَ جُلُودِهِمْ لِيَذُوقُوا العَذَابَ، وَهَذَا الاسْتِثْنَاءُ جَاءَ في بَيَانٍ غَيْرِ هَذَا البَيَانِ مِنَ القُرْآنِ، وَمِنْهُ جَاءَ في الآيَةِ التَّالِيَةِ:

﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾. أَيْ: مُسْوَدَّةٌ بِحَرِيقِهَا لِجُلُودِ المُعَذَّبِينَ فِيهَا، يُقَالُ لُغَةً: لَوَّحَتِ الشَّمْسُ فُلَانًا إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَ جِلْدِهِ وَسَوَّدَتْهُ، أَيْ: فَهِيَ لَا تُفْنِيهِمْ.

وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.

فَهُمْ داخِلَهَا في مَوْقِعٍ يَمَسُّهُمْ لَهَبُ النَّارِ فَيَذُوقُونَ عَذَابَ الحَرِيقِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَأْكُلُهُمْ، إِنَّمَا تُنْضِجُ جُلُودَهُمْ فَيُبَدِّلُهُمُ اللهُ جُلُودًا ذَاتَ إِحْسَاسٍ لِيَذُوقُوا العَذَابَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِعِبَارَةِ: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾. لَا تُبْقِي فِيهَا أَحَدًا يَحْيَا حَيَاةً سَالِمَةً مِنَ العَذَابِ بِالحَرِيقِ، وَلَا تَذَرُ فِيهَا أَحَدًا يَتَخَلَّصُ بِالمَوْتِ مِنْ هَذَا العَذَابِ، وَهَذَا المَعْنَى يُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ في قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في وَصْفِ عَذَابِ الأَشْقَى، وَهُوَ الكَافِرُ المُكَذِّبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الأَمِينُ عَنْ رَبِّهِ: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾.

أَيْ: لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ بِالمَوْتِ مِنَ العَذَابِ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ مِنْ عَذَابِ الحَرِيقِ بِالنَّارِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّ وَاحِدٍ يُسَجِّلُ لِنَفْسِهِ مَوْقِفًا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَرِّفًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْزِيًا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 12/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 29/تشرين الأول / 2020م