738ـ خطبة الجمعة: أما آن الأوان؟

738ـ خطبة الجمعة: أما آن الأوان؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا شَهْرُ رَبِيعٍ الآخرُ أَشْرَفَ عَلَى الانْتِهَاءِ، وَقَدِ احْتَفَلَتِ الأُمَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في شَهْرَيِ الرَّبِيعِ، رَغْمَ آلَامِهَا وَجِرَاحَاتِهَا وَشِدَّةِ البَلَاءِ وَالغَلَاءِ عَلَيْهَا، وَتَعَرَّفَتْ عَلَى حَضْرَتِهِ الشَّرِيفَةِ، فَكَانَ بِحَقٍّ كَمَا قَالَ تعالى عَنْهُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

وَكَمَا وَقَفَتْ بِحَقٍّ عَلَى حِرْصِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِدَايَتِنَا جَمِيعًا، وَإِنْقَاذِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى، وَمِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ، وَوَقَفَتْ بِحَقٍّ أَمَامَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

نَعَمْ، لَقَدْ وَقَفَتِ الأُمَّةُ بِحَقٍّ عَلَى حَقِيقَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ بَلَّغَّ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجَاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَمَا تَرَكَ أَمْرًا يُقَرِّبُنَا إلى اللهِ تعالى إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَأَمَرَنَا بِهِ وَرَغَّبَنَا فِيهِ، وَمَا تَرَكَ أَمْرًا يُبْعِدُنَا عَنِ اللهِ تعالى إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، وَنَهَانَا عَنْهُ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً للعَالَمِينَ.

فَنَحْنُ وَاللهِ نَشْهَدُ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا شَهِدَتْ لَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ: قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. رواه الإمام مسلم.

نَعَمْ، قُلُوبُنَا قَاسِيَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا وَقَفْنَا هَذِهِ الوَقْفَةَ تُجَاهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفْنَا شَيْئًا عَنْ حَقِيقَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بِالمُقَابِلِ وَقَفْنَا عَلَى حَقِيقَةِ أَنْفُسِنَا الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، لَقَدْ وَقَفْنَا عَلَى قَسْوَةِ قُلُوبِنَا وَغَفْلَتِهَا عَنِ اللهِ تعالى، لَقَدْ وَقَفْنَا عَلَى حَقِيقَةِ الإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ تعالى، وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ، مِمَّا أَدَّى إلى وُصُولِنَا إلى حَيَاةِ الشَّقَاءِ وَالضَّنْكِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

نَعَمْ، بِالمُقَابِلِ وَقَفْنَا عَلَى حَقِيقَةِ تَوَغُّلِنَا في كَثِيرٍ مِنَ المَعَاصِي وَالأَعْمَالِ المُحَرَّمَةِ التي لَا تُرْضِي مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَخَاصَّةً حُقُوقَ العِبَادِ، مِمَّا أَدَّى إلى انْطِمَاسِ نُورِ البَصِيرَةِ وَقَسْوَةِ القَلْبِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

الحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ وَيُتَّبَعَ، لَقَدْ أَصْبَحَتْ قُلُوبُنَا قَاسِيَةً لَا تَتَّعِظُ وَلَا تَتَفَكَّرَ، نَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تعالى وَكَأَنَّهَا لَا تُحَرِّكُ فِينَا مَشَاعِرَ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَنَسْمَعُ الذِّكْرَى وَالمَوْعِظَةَ وَلَا تَتَهَيَّجُ النُّفُوسُ، وَلَا تَتَحَرَّكُ القُلُوبُ؛ لَقَدْ أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا نَرَى صُوَرَ القَسْوَةِ وَالجَفَاءِ في المُعَامَلَةِ بَيْنَنَا، بَلْ أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا نَرَى الخُصُومَةَ وَالمَكْرَ وَالكَيْدَ وَالشَّحْنَاءَ وَالبَغْضَاءَ الحَالِقَةَ التي تَحْلِقُ الدِّينَ.

أَمَا تَلَهَّفْنَا أَنْ نَكُونَ صَادِقِينَ في المَحَبَّةِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ صِدْقَ مَحَبَّتِنَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ أَنْ يَتَجَسَّدَ سُلُوكًا وَعَمَلًا، وَإِلَّا فَالمُشْكِلَةُ كَبِيرَةٌ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

هَذَا هُوَ المُؤْمِنُ الحَقُّ، وَالمُحِبُّ الصَّادِقُ، وَهَذَا مَا جَلَّاهُ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الطَّبرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيَّ وَكَانَ وَصَّافًا، عَنْ حِلْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَشْتَهِي، أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي جُلَسَائِهِ؟

قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ وَلَا فَحَّاشٍ وَلَا غَيَّابٍ وَلَا مَدَّاحٍ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُوئَسُ مِنْهُ وَلَا يَخِيبُ فِيهِ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ: الْمِرَاءِ وَالْإِكْثَارِ وَمِمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَتَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ: كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا، وَلَا يُعِيِّرُهُ، وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا، وَلَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ، مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتُهُمْ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ، وَيَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْشَدُوهُ، وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يُجَوِّزَهُ فَيَقْطَعُهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنِ احْتَفَلْتُمْ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خِلَالَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ المَاضِيَيْنِ، وَوَقَفْتُمْ عَلَى حَقِيقَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَلَى حَقِيقَةِ أَنْفُسِكُمْ، ثُمَّ عَلَى حَقِيقَةِ إِيمَانِ وَمَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، حَيْثُ كَانُوا يَهَابُونَ مَجْلِسَهُ الشَّرِيفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَتَصَيَّدُونَ الكَلِمَةَ الشَّرِيفَةَ الجَامِعَةَ المَانِعَةَ، لا لِيُضِيفُوهَا إلى جَوَامِعِ كَلِمِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ كَانُوا يَلْتَقِطُونَ تِلْكَ الدُّرَرَ الشَّرِيفَةَ لِيُجَسِّدُوهَا سُلُوكًا وَعَمَلًا أَمَامَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِيَفْرَحَ وَيُسَرَّ وَتَقَرَّ عَيْنُهُ الشَّرِيفَةُ بِهِمْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ احْتِفَالَاتِنَا صُورَةً صَادِقَةً عَنْ صِدْقِ مَحَبَّتِنَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَأَسِّيًا بِالصَّادِقِينِ في المَحَبَّةِ مِنَ الصَّحْبِ الكِرَامِ؟ أَمَا اشْتَقْنَا إلى ذَاكَ الأَدَبِ الذي الْتَزَمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ؟ أَمَا آنَ الأَوَانُ أَنْ نُفْرِحَ قَلْبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُنَا؟ أَمَا آنَ الأَوَانُ لِأَنْ تَكُونَ بُيُوتُنَا بُيُوتًا مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ تعالى، وَعِنْدَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ هَلُمُّوا يَا عِبَادَ اللهِ لِنَقُولَ: يَا سَيِّدَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ آنَ الأَوَانُ للعَوْدَةِ إلى شَرِيعَتِكَ، وَإلى سُنَّتِكَ الشَّرِيفَةِ، وَسِيرَتِكَ العَطِرَةِ؛ لَقَدْ آنَ الأَوَانُ لِنَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَكَ تَعْتَزُّ وَتَفْتَخِرُ بِنَا في عَالَمِ البَرْزَخِ وَفي عَالَمِ يَوْمِ القِيَامَةِ.

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 26/ ربيع الثاني /1442هـ، الموافق: 11/كانون الأول / 2020م