26ـ كلمة شهر ربيع الثاني1430هـ: التلازم بين المحبة والطاعة

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن التلازم بين المحبة والطاعة قائم لا ينفكُّ، فالمحبة الصادقة تزيد في الطاعة، والطاعة تزيد في المحبة، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}.

فالمحبة الصادقة تدفع إلى المتابعة، والمتابعة تورث المحبة، ولو كانت المحبة بدون متابعة كافيةً لما اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة حتى تفطَّرت قدماه الشريفتان، ولاكتفى صلى الله عليه وسلم بفضل الله عز وجل عليه، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك تماماً.

فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد المحبين لله عز وجل، وبالمقابل كان سيد العابدين، كما جاء في الحديث الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) رواه مسلم.

وكما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ.

وهذا شأن كل محب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه بصادق المحبة الاتباع التام والطاعة التامة، والعمل على قدر الطاقة، حتى يفوز بمعية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا فعل أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا في المحبة فاتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً كاملاً، وأطاعوه طاعة تامة، بل ربما البعض بالغ في الطاعة فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوسطية والاعتدال، لأن الاستمرار في العمل القليل خير من الفعل الكثير، ثم تركه بعد ذلك.

فقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ).

ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: إنما أحب الدائم لمعنيين:

أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حقِّ من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعيَّن عليه.

ثانيهما: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتاً ما كمن لازم يوماً كاملاً ثم انقطع. اهـ.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ).

الشِّرَّة: هي النشاط والرغبة والاندفاع في العمل.

الفترة: هي الانكسار والضعف والكسل عن العمل.

ومن هنا جاء التشديد في التعمُّق المفضي إلى ذلك، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا الدِّين يُسْرٌ، ولنْ يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه، فَسَدِّدُوا وقاربوا، أبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغُدوةِ والرَّوْحَة، وشيءٍ من الدُّلْجةِ).

فالمحب طائع، والطائع محبوب، والمطلوب من المحب الطائع دوام الطاعة إلى نهاية الأجل، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين}.

ومن خلال هذا كان يردُّ النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المحبين الطائعين الذي عشقوا الطاعة لفرط محبتهم للأمر إلى الاعتدال حتى يستقيموا على الطاعة إلى نهاية الأجل.

روى الإمام البخاري عن أبي حجيفة رضي الله عنه قال: آخَى النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بَيْن سَلْمَانَ وأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاء مُتَبَذِّلَةً، فقالَ: ما شَأْنُكِ؟ قالَتْ: أَخْوكَ أَبُو الدَّرداءِ ليْسَ له حَاجةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدرْدَاءِ فَصَنَعَ لَه طَعَاماً، فقالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قالَ: ما أَنا بآكلٍ حَتَّى تأْكلَ، فَأَكَلَ، فَلَّمَا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْداءِ يقُوم، فقال لَه: نَمْ فَنَام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُوم، فقالَ لَه: نَمْ، فَلَمَّا كان من آخرِ اللَّيْلِ قالَ سلْمانُ: قُم الآنَ، فَصَلَّيَا جَمِيعاً، فقالَ له سَلْمَانُ: إِنَّ لرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لنَفْسِكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولأهلِك عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَذَكر ذلكَ لَه، فقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (صَدَقَ سلْمَانُ).

وعن أَنسٍ رضي اللَّه عنه قال: جاءَ ثَلاثةُ رهْطِ إِلَى بُيُوتِ أَزْواجِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يسْأَلُونَ عنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَلَمَّا أُخبِروا كأَنَّهُمْ تَقَالَّوْها، وقالُوا: أَين نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَدْ غُفِر لَهُ ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ. قالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فأُصلِّي الليل أَبداً، وقال الآخَرُ: وَأَنا أَصُومُ الدَّهْرَ أبداً ولا أُفْطِرُ، وقالَ الآخرُ: وأَنا اعْتَزِلُ النِّساءَ فلا أَتَزوَّجُ أَبداً، فَجاءَ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إلَيْهمْ فقال: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كذا وكذَا؟ أَما واللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للَّهِ وَأَتْقَاكُم له، لكِني أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصلِّي وَأَرْقُد، وَأَتَزَوّجُ النِّسَاءَ، فمنْ رغِب عن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي) رواه البخاري ومسلم.

فلينظر كلُّ واحد منا إلى الفارق الكبير بيننا وبين هؤلاء الكرام الذي جسَّدوا حقيقة التلازم بين المحبة والطاعة.

فمحب تطلب منه الرفق بنفسه في فعل الطاعة، ومحب ترجوه أن يطيع محبوبه، كم هو الفارق؟ نسألك يا ربَّنا كمال الاقتداء.

وصلى الله عليه وسلم سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **