52ـ ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾

52ـ ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ، فَلَمَّا رَأَى سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الدُّنْيَا قَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ، وَأَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ بِرُؤْيَةِ وَالِدَيْهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِهِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى آتَاهُ المُلْكَ، عَلِمَ أَنَّ أَمْرَ الآخِرَةِ قَدِ اقْتَرَبَ، فَلَا يَكَادُ شَيْءٌ يَكْتَمِلُ إِلَّا وَآذَنَ بِزَوَالِهِ وَرَحِيلِهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَكَى لَمَّا نَزَلَ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. فَعَلِمَ أَنَّ أَمْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدِ اقْتَرَبَ.

روى ابن أبي شيبة عَنْ هَارُونَ بْنِ أَبِي وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾. قَالَ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ؟».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ قَطُّ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ.

قَالَ: «صَدَقْتَ».

وروى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟

فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ.

قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا . . حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي، أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا.

فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟

قُلْتُ: لَا.

قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟

قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.

قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ.

وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي» بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.

فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا رَأَى تَمَامَ النِّعْمَةِ مِنَ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، بِأَنْ جَمَعَهُ مَعَ وَالِدَيْهِ وَأَهْلِهِ، وَآتَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ المُلْكَ، طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ كَمَا أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا، أَنْ يُتِمَّهَا عَلَيْهِ في الآخِرَةِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.

دُعَاءٌ جَامِعٌ، تَوَجَّهَ بِهِ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يَلْفِتُ أَنْظَارَنَا إلى حَقِيقَةٍ يَجِبُ أَنْ لَا تَغِيبَ عَنَّا، وَهِيَ أَنَّ النِّعْمَةَ يَجِبُ أَنْ لَا تُشْغِلَ العَبْدَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ تَذَكُّرِ الآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ حِسَابٍ، فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا شَغَلَهُ الجَاهُ وَلَا السُّلْطَانُ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى، كَمَا لَمْ تَشْغَلْهُ المِحَنُ التي مَرَّ فِيهَا؛ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ، نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَحْشُرَنَا مَعَهُمْ، وَأَنْ نَسِيرَ سَيْرَهُمْ؛ لَقَدْ كَانَ صَابِرًا في المِحَنِ، وَشَاكِرًا في المِنَحِ، وَهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ مِنَ العَبْدِ.

حُكْمُ تَمَنِّي المَوْتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ سَأَلَ سَيِّدُّنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَوَفَّاهُ عَلَى الإِسْلَامِ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِالصَّالِحِينَ؛ وَهَذَا التَّمَنِّي جَائِزٌ شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَجَرٌ، وَلَيْسَ فِيهِ سَآمَةٌ وَلَا يَأْسٌ وَلَا قُنُوطٌ، عَلَى عَكْسِ مَنْ يَتَمَنَّى المَوْتَ لِضُرٍّ مَسَّهُ.

روى الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي».

سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَأَلَ اللهَ تعالى الوَفَاةَ عِنْدَمَا أُلْقِيَ في الجُبِّ، وَلَا سَأَلَهُ إِيَّاهُ عِنْدَمَا اجْتَمَعَ كَيْدُ النِّسْوَةِ عَلَيْهِ، وَمَا سَأَلَهُ إِيَّاهُ عِنْدَمَا دَخَلَ السِّجْنَ، لِأَنَّهُ لَو سَأَلَ اللهَ تعالى هَذَا لَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ سَأَلَ المَوْتَ بِسَبَبِ هَذِهِ الابْتِلَاءَاتِ.

وَلَكِنْ سَأَلَ اللهَ تعالى الوَفَاةَ عَلَى الإِسْلَامِ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِالصَّالِحِينَ، عِنْدَمَا مَكَّنَهُ اللهُ تعالى في الأَرْضِ، وَجَمَعَهُ مَعَ أَهْلِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المَوْتُ بَوَّابَةُ الآخِرَةِ، وَيَبْعَثُ عَلَى اليَقِينِ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا كُلِّهِ.

هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَخْتَارُ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ».

فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا.

فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا؛ فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ.

في الخِتَامِ، لِنَتَعَلَّمْ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ أَقْصَى مَا يَتَمَنَّاهُ كُلُّ مُسْلِمٍ صَادِقٍ مُخْلِصٍ هُوَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الإِسْلَامِ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ اللهُ تعالى بِرَكْبِ الصَّالِحِينَ، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى ضَمِنَ الجَنَّةَ لِأَنْبِيَائِهِ جَمِيعًا وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.

مَا قِيمَةُ المُلْكِ وَالتَّمْكِينِ في الأَرْضِ، وَالجَاهِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ وَالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ إِذَا خُتِمَ للعَبْدِ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ، أَو خُتِمَ لَهُ بِخَاتِمَةِ سُوءٍ.

اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 10/ رجب /1442هـ، الموافق: 22/ شباط / 2021م