727ـ خطبة الجمعة: مصيبة فقد العلماء العاملين

727ـ خطبة الجمعة: مصيبة فقد العلماء العاملين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُمْ وَرَثَةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الذينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ تعالى، وَهُمُ الذينَ يَنْهَضُونَ بِالأُمَّةِ بِحَالِهِمْ، وَيَدُلُّونَهَا عَلَى اللهِ بِمَقَالِهِمْ، هُمْ أَقْمَارٌ للنَّاسِ بَلْ هُمْ شُمُوسُ الدُّنْيَا، بِهِمْ يُخْرِجُ اللهُ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، بِهِمْ يَجْمَعُ اللهُ تعالى شَمْلَ الأُمَّةِ.

العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ سَبَبُ حِفْظِ هَذَا الدِّينِ، وَحِفْظِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، هُمُ الذينَ رَفَعَهُمُ اللهُ تعالى عَلَى كُلِّ المَرْفُوعِينَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.

هُمْ صِمَامُ الأَمَانِ للأُمَّةِ، وَهُمُ الذينَ يَصُونُونَ للأُمَّةِ عِزَّهَا وَكَرَامَتَهَا، هُمُ الحِصْنُ الحَصِينُ وَالسِّيَاجُ المَتِينُ لِمَنْ لَاذَ بِهِمْ.

حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَقَدَرٌ نَافِذٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ للهِ تعالى حِكْمَةً بَالِغَةً وَقَدَرًا نَافِذًا كَتَبَهُ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾. وَمِمَا كَتَبَهُ اللهُ تعالى عَلَى خَلْقِهِ المَوْتَ وَالفَنَاءَ، فَقَالَ تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. وَلَو كَانَ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ لِأَحَدٍ مِنْ هَذَا لَكَانَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَا اسْتِثْنَاءَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ: أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الفَقْدِ عَلَى النُّفُوسِ وَقْعًا، وَأَشَدُّهُ عَلَى الأُمَّةِ لَوْعَةً وَأَثَرًا فَقْدُ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالأَئِمَّةِ المُصْلِحِينَ، مَصَابِيحِ الهُدَى، الذينَ جَمَعُوا بَيْنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ، فَأَثَّرُوا في الأُمَّةِ بِحَالِهِمْ وَقَالِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ».

وروى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

فَقْدُ العَلَّامَةِ الشَّيْخِ نُور الدِّين عتر رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أُصِيبَتِ الأُمَّةُ اليَوْمَ بِفَقْدِ العَلَّامَةِ المُحَدِّثِ الحَافِظِ الفَقِيهِ المُفَسِّرِ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الدكتور الشَّيْخِ نور الدِّين عتر الذي جَمَعَ بَيْنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ مَعَ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ ـ وَلَا نُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا ـ الذي زَكَّى نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ، وَالذي كَانَ يَبْحَثُ عَنْ رِضَا اللهِ تعالى في جَمِيعِ شُؤُونِهِ، الذي كَانَ زَاهِدًا في الدُّنْيَا وَمَنَاصِبِهَا، وَزِينَتِهَا، الذي كَانَ مُتَوَاضِعًا للهِ، سَلِيمَ الصَّدْرِ، خَافِضَ الجَنَاحِ، رَقِيقَ القَلْبِ، بَكَّاءً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تعالى، مُحِبًّا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مُدَافِعًا وَمُنَافِحًا عَنْ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرًا مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

تَـاللهِ حَـقًّا كُـنْـتَ نُـورَ الـدِّيـــنِ    ***   نِـلْـتَ العُلَا في العِلْمِ وَالتَّمْكِيـنِ

فَـلَـئِـنْ ثَـوَيْتَ فَإِنَّ حُبَّكَ قَدْ ثَوَى   ***   في الـــقَلْبِ مِنْ وُدٍّ لَكُمْ وَحَنِيـنِ

مَـا مَـاتَ مَـنْ أَحْـيَـا شَـرِيعَةَ دِينِنَا   ***   بِالبَحْـــــثِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِيـنِ

قَدْ ضَمَّ رَمْسُكَ بَدْرَ تِمٍّ قَدْ حَــوَى   ***   عَلَمًا يَجِلُّ كَــجَــوْهَـــرٍ مَكْنُـونِ

سَـيَـظَلُّ نُورُ جَلِيلِ عِلْمِكَ سَاطِعًا    ***   في الهَدْيِ وَالإِرْشَادِ وَالـتَّـبْـيِــينِ

عِـلْـمُ الحَـدِيثِ بِكُمْ تَبَدَّى رَاسِخًا    ***   صَوْنًا لَهُ مِنْ مُدَّعٍ وَمَــهِــيــــنِ

في الـفِـقْـهِ وَالتَّفْسِيرِ أَثْمَرَ جُـهْدُكُمْ   ***   في خَيْرِ نَهْجٍ مُحْكَمٍ وَمَـصُـــــونِ

في الجَامِعَاتِ لَـكُـمْ عَـظِيمُ فَضَائِلٍ    ***   في نَشْرِ عِلْمٍ لَمْ تَكُنْ بِـضَـنِـيـــنِ

وَكَذَا المَسَاجِدُ كَمْ حَوَتْ مِنْ حَـلْقَةٍ   ***   بِكُمُ لِمَقْصَدِ مُخْلِصٍ وَفَـطِــيـــنِ

قَـضَّيْـتَ عُـمْـرَكَ للمَعَارِفِ نَاشِرًا    ***   وَمُعَلِّمًا بِتَوَاضُعٍ وَسُـكُــــــونِ

وَثَنَاءُ مَـنْ عَـلَّـمْـتَ أَضْحَى شَاهِدًا   ***   لِرِضَاءِ رَبِّكَ رَاجِيًا بِـيَـقِـيـــنِ

بَـلْ أَنْـتَ للإِسْلَامِ دِرْعُ حِمَـايَــــــةٍ   ***   مِنْهُ بِحَبْلٍ رَاسِخٍ وَمَـتِـيـــــنِ

يَـــا رَبِّ فَـارْحَـمْ مَـنْ نُـقِرُّ بِفَضْلِهِ    ***   وَبِحُسْنِ خُلْقٍ فَاضِلٍ وَرَزِيــنِ

إِنِّي أُوَاسِي أَهْـلَــهُ وَصِــحَــابَـــــهُ   ***   بِالصَّبْرِ مِنْ قَلْبٍ شَجٍ وَحَزِينِ

وَصَــــلَاةُ رَبِّي للــنَّــبِـــيِّ وَآلِـــهِ    ***   وَصِحَابِهِ وَتَعُمُّ نُـــورَ الـدِّينِ

وَمَـعَ الـسَّلَامِ وَطِـيـبِ مِسْكٍ ذَاخِرٍ    ***   وَتَقِيهِ مِنْ كُرُبَاتِنَا وَتَقِيــــنِـي

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: فَتِّشُوا عَنِ العَالِمِ العَامِلِ وَالْزَمُوهُ، وَخُذُوا بِوَصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «يَا ابْنَ عُمَرَ، دِينَكَ دِينَكَ، إنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، خُذْ عَنِ الذينَ اسْتَقَامُوا وَلَا تَأْخُذْ عَنِ الذينَ مَالُوا» رواه ابنُ عُدي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

وَيَقُولُ الحَسَنُ كَانُوا يَقُولُونَ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. رواه الدارمي.

وَلَكِنْ حُسْنُ عَزَائِنَا في فَقْدِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ تعالى قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَـضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» رواه الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وما رواه البَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ قَالَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ».

إِنَّ العَيْنَ لَتَدْمَعُ، وَإِنَّ القَلْبَ لَيَحْزَنُ، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا سَيِّدِي لَمَحْزُونُونَ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنَا في مُصِيبَتِنَا وَعَوِّضْنَا خَيْرًا، وَأَخْلِفْ عَلَيْهِ خَيْرًا مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ تَرُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَتَرْكِ مَعَاصِيكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، رِجَالًا وَنِسَاءً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 8/ صفر /1442هـ، الموافق: 25/أيلول / 2020م