169ـ مهلًا يا طالب العلم (2)

كلمة شهر ربيع الأول 1442

169ـ مهلًا يا طالب العلم (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَخِي يَا طَالِبَ العِلْمِ، يَا أَيُّهَا الوَاعِظُ، يَا أَيُّهَا النَّاصِحُ، يَا أَيُّهَا الخَطِيبُ، يَا أَيُّهَا المُدَرِّسُ، يَا أَيُّهَا المُفْتِي، يَا مَنْ تُصْغِي إِلَيْكَ القُلُوبُ، وَيُنْصِتُ لَكَ السَّامِعُ، مَهْلًا، وَقِفْ مَعَ نَفْسِكَ قَلْيلًا.

أولًا: وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا جُمِعَت القُلُوبَ عَلَيْكَ.

ثانيًا: الوَعْظُ وَالإِرْشَادُ وَالنُّصْحُ وَالخُطْبَةُ وَالإِفْتَاءُ عِبَادَةٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الإِخْلَاصِ.

ثالثًا: قَبْلَ الوَعْظِ وَالإِرْشَادِ وَالنُّصْحِ وَالخُطْبَةِ وَالإِفْتَاءِ كُنْ مُلْتَزِمًا بِمَا تَقُولُ.

رابعًا: أَخِي الوَاعِظَ النَّاصِحَ الخَطِيبَ المُدَرِّسَ المُفْتِيَ، تَحَرَّ زَمَانَ وَمَكَانَ الوَعْظِ.

خامسًا: كُنْ حَرِيصًا عَلَى صِحَّةِ اللُّغَةِ وَبَلَاغَةِ الحَدِيثِ.

سادسًا: احْذَرْ مِنَ الاسْتِشْهَادِ بِالأَحَادِيثِ المَوْضُوعَةِ:

يَا أَخِي يَا طَالِبَ العِلْمِ، يَا أَيُّهَا الوَاعِظُ، يَا أَيُّهَا النَّاصِحُ، يَا أَيُّهَا الخَطِيبُ، يَا أَيُّهَا المُدَرِّسُ، يَا أَيُّهَا المُفْتِي، يَا مَنْ تُصْغِي إِلَيْكَ القُلُوبُ، وَيُنْصِتُ لَكَ السَّامِعُ، احْذَرْ مِنَ الاسْتِشْهَادِ بِالأَحَادِيثِ المَوْضُوعَةِ، عِنْدَكَ مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالحَسَنَةِ مَا يُغْنِيكَ عَنِ الأَحَادِيثِ المَوْضُوعَةِ.

كُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الاسْتِشْهَادِ بِالأَحَادِيثِ المَوْضُوعَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

سابعًا: اسْلُكْ مَسْلَكَ التَّفَاؤُلِ وَفَتْحِ طَرِيقِ التَّوْبَةِ:

يَا أَخِي يَا طَالِبَ العِلْمِ، يَا أَيُّهَا الوَاعِظُ، يَا أَيُّهَا النَّاصِحُ، يَا أَيُّهَا الخَطِيبُ، يَا أَيُّهَا المُدَرِّسُ، يَا أَيُّهَا المُفْتِي، يَا مَنْ تُصْغِي إِلَيْكَ القُلُوبُ، وَيُنْصِتُ لَكَ السَّامِعُ، اسْلُكْ مَسْلَكَ التَّفَاؤُلِ وَفَتْحِ طَرِيقِ التَّوْبَةِ، وَتَسْهِيلِهَا عَلَى النَّاس، مُبْتَعِدًا عَنْ أُسْلُوبِ التَّيْئِيسِ وَالقُنُوطِ، وَتَأَمَّلْ أُسْلُوبَ القُرْآنِ في الوَعْظِ في مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

وَفي مِثْلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

وَفي مِثْلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا﴾.

تَأَمَّلْ يَا أَخِي يَا طَالِبَ العِلْمِ، كَيْفَ فَتَحَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِوَعْظِهِ آفَاقًا مَدِيدَةً في التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مَهْمَا عَظُمَ الذَّنْبُ أَو تَفَاقَمَ في قِصَّةِ مَنْ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَعَلَّ مِنَ الجَمِيلِ أَنْ نَضَعَ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ نَصْبَ أَعْيُنِنَا، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: جَاءَ شَابٌّ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَدَعْ سَيِّئَةً إِلَّا عَمِلَهَا, وَلَا خَطِيئَةً إِلَّا رَكِبَهَا، وَلَا أَشْرَفَ لَهُ سَهْمٌ فَمَا فَوْقَهُ إِلَّا اقْتَطَعَهُ بِيَمِينِهِ، وَمَنْ لَوْ قُسِّمَتْ خَطَايَاهُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَغَمَرَتْهُمْ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ؟» أَوْ: «أَنْتَ مُسْلِمٌ؟».

قَالَ: أَمَّا أَنَا, فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

قَالَ: «اذْهَبْ, فَقَدْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟

قَالَ: «وَغَدَرَاتُكَ وَفَجَرَاتُكَ» ثَلَاثًا.

فَوَلَّى الشَّابُّ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُكَبِّرُ، حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، أَوْ خَفِيَ عَنِّي.

ثامنًا: وَطِّنْ نَفْسَكَ لِقَبُولِ النُّصْحِ مِنَ المُسْتَمِعِينَ إِلَيْكَ:

يَا أَخِي يَا طَالِبَ العِلْمِ، يَا أَيُّهَا الوَاعِظُ، يَا أَيُّهَا النَّاصِحُ، يَا أَيُّهَا الخَطِيبُ، يَا أَيُّهَا المُدَرِّسُ، يَا أَيُّهَا المُفْتِي، يَا مَنْ تُصْغِي إِلَيْكَ القُلُوبُ، وَيُنْصِتُ لَكَ السَّامِعُ، وَطِّنْ نَفْسَكَ لِقَبُولِ النُّصْحِ مِنَ المُسْتَمِعِينَ إِلَيْكَ، لِأَنَّ المُسْتَمِعَ قَدْ يُدْرِكُ مِنَ الخَلَلِ في كَلَامِكَ مَا لَا تُدْرِكُهُ أَنْتَ، فَالمُسْتَمِعُ النَّاصِحُ الأَمِينُ كَالمِرْآةِ تَكْشِفُ للوَاعِظِ وَالخَطِيبِ وَالمُدَرِّسِ مِنَ المَثَالِبِ مَا لَا يَكْشِفُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا رَيْبَ وَلَا شَكَّ أَنَّ في النُّصْحِ لَكَ ارْتِقَاءً، وَسَبِيلًا لِنِتَاجٍ أَكْثَرَ وَأَيْنَعَ.

تَذَكَّرْ خَاصَّةً إِذَا كُنْتَ مُفْتِيًا مَوْقِفَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّدَ المُهُورَ، وَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ كَمَا روى أبو يعلى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: رَكِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا إِكْثَارُكُمْ فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَإِنَّمَا الصَّدُقَاتُ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَعُمِئَةِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ أَوْ مَكْرُمَةً لَمْ تَسْبِقُوهُمْ إِلَيْهَا فَلَا أَعْرِفَنَّ مَا زَادَ رَجُلٌ عَلَى أَرْبَعِمِئَةِ دِرْهَمٍ.

قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَهَيْتَ النَّاسَ أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدُقَاتِهِمْ عَلَى أَرْبَعِمِئَةِ دِرْهَمٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ؟

فَقَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ؟

قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾.

فَقَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ.

قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدُقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِئَةِ دِرْهَمٍ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ - قَالَ أَبُو يَعْلَى: قَالَ: وَأَظُنُّهُ قَالَ - فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ.

وَفي الخِتَامِ أَقُولُ: يَا أَخِي يَا طَالِبَ العِلْمِ، يَا أَيُّهَا الوَاعِظُ، يَا أَيُّهَا النَّاصِحُ، يَا أَيُّهَا الخَطِيبُ، يَا أَيُّهَا المُدَرِّسُ، يَا أَيُّهَا المُفْتِي، يَا مَنْ تُصْغِي إِلَيْكَ القُلُوبُ، وَيُنْصِتُ لَكَ السَّامِعُ، لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في أَنْفُسِنَا، وَفي المُسْتَمِعِينَ، وَلْنَتَذَكَّرْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلُهُ عَنْهَا أظنه قال مَا أَرَادَ بِهَا».

قَالَ جَعْفَرٌ: كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثَ بَكَى حَتَّى يَنْقَطِعَ، ثُمَّ يَقُولُ: تحْسَبُونَ أَنَّ عَيْنِي تَقَرُّ بِكَلَامِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلِي عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أَرَدْتُ بِهِ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق:  18/ تشرين الأول / 2020م