4ـ أم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام (1)

4ـ أم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام (1)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أُمُّ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ هِيَ أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ لِمَنْ أَرَادَتِ الطَّهَارَةَ وَالاصْطِفَاءَ وَالعِفَّةَ وَالكَرَامَةَ مِنْ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ.

لَقَدِ اصْطَفَاهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَطَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾.

سَيِّدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَأُمٌّ عَفِيفَةٌ نَشَأَتْ في بَيْتِ دِينٍ وَتُقًى، لِأَبٍ عَالِمٍ شَيْخٍ مِنْ كِبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهَا أُمُّهَا، نَذَرَتْ أَنْ تَهَبَ مَا في بَطْنِهَا للهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

أَمْضَتْ هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ أَيَّامَ صِبَاهَا في المِحْرَابِ عَابِدَةً رَبَّهَا عَزَّ وَجَلَّ قَانِتَةً رَاكِعَةً سَاجِدَةً، خَادِمَةً لِبَيْتِ اللهِ تعالى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَفَاءً بِنَذْرِ أُمِّهَا، حَتَّى اصْطَفَاهَا اللهُ تعالى مِنَ النِّسَاءِ جَمِيعًا لِتَكُونَ حَامِلاً بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ.

﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ لَقَدْ شَهِدَ لَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالكَمَالِ، فَقَالَ: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ كَانَتْ تَعِيشُ في عَصْرِ الإِيمَانِ بِالأَسْبَابِ فَقَطْ، فَكَانَتْ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تعالى أَنْ يَجْعَلَ الخَوَارِقَ المُبْطِلَةَ لِذَلِكَ التَّفْكِيرِ الضَّالِّ المُضِلِّ، فَكَانَ حَمْلُ سَيِّدِنَا يَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَارِقًا للعَادَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَبٍ بَلَغَ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا، وَأُمٍّ كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ.

وَكَانَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أُمٍّ بِغَيْرِ أَبٍ، بَلْ سَبَقَ ذَلِكَ خَوَارِقُ للسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ إِذْ كَانَ اللهُ تعالى يَرْزُقُهَا مِنْ غَيْرِ الأَسْبَابِ، قَالَ تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

فَخَرْقُ نِظَامِ الأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا كَانَ في أُمِّ عِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾. لَقَدِ اعْتَزَلَتِ النَّاسَ وَنَبَذَتْهُمْ، وَانْفَرَدَتْ لِعِبَادَةِ اللهِ تعالى وَحْدَهُ، لَا تَأْنَسُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَعْمُرُ قَلْبُهَا إِلَّا بِذِكْرِهِ، لَقَدِ انْفَرَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا في مَكَانٍ شَرْقِيٍّ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، الذي كَانَ فِيهِ مِحْرَابُهَا، وَكَانَ وَرَاءَ هَذَا الانْفِرَادِ أَنِ اتَّخَذَتْ حِجَابًا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾. فَلَا تَرَى، وَلَا تُرَى.

مَا أَجْمَلَ المَرْأَةَ عِنْدَمَا لَا تَرَى وَلَا تُرَى، وَخَاصَّةً في زَمَنٍ قَلَّ فِيهِ الحَيَاءُ مِنَ اللهِ تعالى.

في هَذِهِ الخَلْوَةِ المُبَارَكَةِ كَانَ لِقَاءُ جِبْرِيلَ الأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾. الرُّوحُ هُوَ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِرُوحِ القُدُسِ، وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ خَالِقُهَا.

فُوجِئَتِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ البَتُولُ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَهِيَ في ذَاكَ المَكَانِ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِنَ البَشَرِ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَلَا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَهَا، وَقَدْ سُدَّتِ الأَبْوَابُ، وَقَامَ الحِجَابُ، وَفي الفَزَعِ مِنَ المُفَاجَأَةِ، قَالَ اللهُ تعالى عَنْهَا: ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾. أَيْ: أَلْجَأُ إلى اللهِ تعالى مِنْكَ حَذِرَةً خَائِفَةً، وَذَكَرَتْ صِفَةَ الرَّحْمَةِ كَأَنَّهَا تَسْتَغِيثُ مِنْهُ بِرَحْمَةِ اللهِ تعالى، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ مُسْتَنْجِدَةً بِتَقْوَاهُ: ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾.

لَقَدْ لَجَأَتْ إلى اللهِ تعالى وَحَثَّتْهُ عَلَى أَنْ يَخَافَ اللهَ تعالى وَيَتَّقِيَهُ، وَيَخَافَ عَذَابَهُ، وَيَرْجُوَ ثَوَابَهُ.

في هَذِهِ اللَّحْظَةِ يَتَقَدَّمُ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الذي تَمَثَّلَ بَشَرًا سَوِيًّا يُعْلِنُ حَقِيقَتَهُ وَمُهِمَّتَهُ، وَأَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنَالَ مِنْهَا شَرًّا، وَأَنَّ مَا سَبَقَ إلى وَهْمِهَا يَنْفِيهِ نَفْيًا قَاطِعًا ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾. يَعْنِي: أَنَا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّكِ الذي خَلَقَكِ وَيَعْلَمُ حَالَكِ وَطَهَارَتَكِ، وَأَنَّهُ اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ، لِتَكُونِي مَوْضِعَ مُعْجِزَتِهِ الكَبِيرَةِ، وَهِيَ خَلْقُ إِنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ﴿لِأَهَبِ﴾. يَعْنِي: لِأَكُونَ أَدَاةَ هِبَةِ اللهِ لَكِ.

فَلَيْسَ هُوَ الذي يَهَبُ، إِنَّمَا يَهَبُ اللهُ تعالى ﴿غُلَامًا زَكِيًّا﴾. أَيْ: غُلَامَاً طَاهِرًا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ أُمُّ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَمُوذَجٌ مِنَ النَّمَاذِجِ الصَّالِحَةِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَتَحَقَّقَ بِمَنْ وَصَفَهُنَّ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا وَنِسَاءَنَا بِالعِفَّةِ وَالطَّهَارَةِ، مَعَ القُنُوتِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 5/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 22/ تشرين الأول / 2020م