196ـ محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (3)

196ـ محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

ثَالِثَاً: رِضَاهُمْ بِمَعِيَّتِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمُرَافَقَتِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فَسَلَامُهُمْ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ ذَهَبِهَا وَفِضَّتِهَا وَسَائِرِ أَمْوَالِهَا!.

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أُنَاسَاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا حِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ ـ أَيْ: أَعْطَاهُ اللهُ تعالى غَنَائِمَ كَثِيرَةً ـ فَطَفِقِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالجِعْرَانَةِ، يُعْطِي رِجَالَاً مِنْ قُرَيْشٍ المِائَةَ مِنَ الإِبِلِ.

فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ! يُعْطِي قُرَيْشَاً وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟! أَيْ: تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِمُحَارَبَتِنَا إِيَّاهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا في الإِسْلَامِ.

فَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ في قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ ـ أَيْ: جِلْدٍ ـ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدَاً غَيْرَهُمْ.

فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟».

فَقَالَ فُقَهَاؤُهُمْ: ـ أَيْ: عُلَمَاؤُهُمْ وَعُقَلَاهُمْ ـ أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا ـ أَيْ: أَصْحَابُ العُقُولِ وَالفَهْمِ مِنَّا ـ يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئَاً، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، قَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُرَيْشَاً، وَيَدَعُ الأَنْصَارَ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُعْطِي رِجَالَاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ ـ أَيْ: مَنَازِلِكُمْ في المَدِينَةِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ ـ أَيْ: تَرْجِعُونَ بِهِ ـ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَضِينَا.

فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَسَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الحَوْضِ».

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَيْضَاً: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ قُرَيْشَاً حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى بُيُوتِكُمْ؟».

قَالُوا: بَلَى ـ أَيْ: رَضِينَا ـ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيَاً، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبَاً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ، أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ».

وَفِي رِوَايَةِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالَاً فَهَدَاكُمُ اللهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟!

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تُجِيبُونَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟».

قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ، وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ؟ المَنُّ للهِ وَلِرَسُولِهِ!.

قَالَ: «وَاللهِ لَو شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصَدَّقْتُكُمْ:

جِئْتَنَا طَرِيدَاً فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلَاً فَأَغْنَيْنَاكَ، وَخَائِفَاً فَأَمَّنَّاكَ».

فَقَالُوا: الحَقُّ للهِ وَلِرَسُولِهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَجَدْتُمْ في نُفُوسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ في لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (اللُّعَاعَةُ: بِضَمِّ اللَّامِ، مَعْنَاهَا هُنَا الشَّيْءُ اليَسِيرُ) تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمَاً أَسْلَمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلى مَا قَسَمَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الإِسْلَامِ؟

أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إلى رِحَالِهِمْ بِالشَّاءِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إلى رِحَالِكُمْ؟!.

فَوَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبَاً، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبَاً، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ.

وَلَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءَاً مِنَ الأَنْصَارِ.

اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ».

قَالَ: فَبَكَى القَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ ـ مِنَ الدُّمُوعِ ـ.

وَقَالُوا: رَضِينَا بِاللهِ رَبَّاً، وَرَسُولِهِ قَسْمَاً ـ ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَفَرَّقُوا.

رَابِعَاً: حِرْصُهُمُ الشَّدِيدُ عَلَى مُرَافَقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في جَمِيعِ العَوَالِمِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِذَلِكَ في دُعَائِهِمْ أَوْقَاتَ الإِجَابَةِ.

رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ، أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ في دَرَجَاتِ الجَنَّةِ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ فَصَدَّقَهُ، وَكَيْفَ لَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا في الجَنَّةِ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضَاً ـ أَيْ: يَرَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ

فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً﴾.

وَهَذَا السَّبَبُ الوَارِدُ في نُزُولِ الآيَةِ لَا يَتَنَافَى مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَسْبَابِ، فَإِنَّ الآيَةَ الوَاحِدَةَ قَدْ تَنْزِلُ في عِدَّةِ أَسْبَابٍ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَسْبَابَ كُلَّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ سُؤَالُ الصَّحَابَةِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، عَمَّا يَجْمَعُهُمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في عَوَالِمِ الآخِرَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ مَعَهُ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْهُ أَبَدَاً.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 6/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 23/تشرين الأول / 2020م