4ـ من الذين يرحمهم الله تعالى؟

4ـ من الذين يرحمهم الله تعالى؟

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَحْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهَا في الآخِرَةِ لَنْ تَكُونَ إِلَّا في حَقِّ مَنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.

فالذينَ سَيُرْحَمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَتَنَالُهُمْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ، هُمْ مَنْ يُؤْمِنُونَ بِهَذَا النَّبِيِّ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَيَتَّبِعُونَهُ.

مَنِ الذينَ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الذينَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ هُمُ المُؤْمِنُونَ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيمَانًا عَمَلِيًّا، هُمُ الذينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُونَ نَهْيَهُ، فَمَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَعَلَيْهِ بِطَاعَةِ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ وَلْنَأْخُذْ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ:

أولًا: الرَّحْمَةَ بِعِبَادِ اللهِ تعالى:

مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَلْيَرْحَمْ عِبَادَ اللهِ تعالى، فَمَنْ رَحِمَ رُحِمَ، وَكُلَّمَا عَظُمَتِ الرَّحْمَةُ مِنَ العَبْدِ عَظُمَتِ الرَّحْمَةُ مِنَ اللهِ تعالى.

روى الإمام مسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا، أَوِ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَأَخْبِرْهَا: أَنَّ للهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ.

فَعَادَ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا.

قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.

فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».

وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلاَ يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ».

وروى الإمام البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ»

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».

ثانيًا: اتِّقَاءَ السَّيِّئَاتِ:

مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَلْيَتَّقِ المَعَاصِيَ وَالسَّيِّئَاتِ، وَلْيَفْعَلِ المَأْمُورَاتِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ، وَهُوَ المُتَصَرِّفُ فِيهِمْ كَيْفَمَا شَاءَ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ، كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِأُمُورٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أُمُورٍ، فَالمُوَفَّقُ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ هُوَ السَّعِيدُ الفَائِزُ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَسَيَنَالُ رَحْمَةَ اللهِ تعالى في الآخِرَةِ.

هَذَا دُعَاءُ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُخَاطِبُ وَلَدَهُ: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾.

ثالثًا: الإِحْسَانَ للآخَرِينَ:

مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَلْيَكُنْ مُحْسِنًا، وَلْيُعَامِلْ خَلْقَ اللهِ تعالى بِالإِحْسَانِ لَا بِالعَدْلِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

رابعًا: العَمَلَ الصَّالِحَ:

مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَلْيَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ صَالِحًا، قَالَ تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾.

خامسًا: الاسْتِمَاعَ للقُرْآنِ الكَرِيمِ وَالإِنْصَاتَ إِلَيْهِ:

مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَلْيَسْتَمِعْ للقُرْآنِ وَلْيُنْصِتْ لَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

سادسًا: الصَّبْرَ عِنْدَ المَصَائِبِ:

مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ تعالى فَلْيَصْبِرْ عِنْدَ المَصَائِبِ، قَالَ تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا كَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ تعالى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَإِنَّ الخَاسِرَ الحَقِيقِيَّ هُوَ الذي لَمْ تَشْمَلْهُ الرَّحْمَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا.

لِنَتَدَبَّرْ جَمِيعًا قَوْلَ اللهِ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى علَى لِسَانِ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيْنَا أَنْ نُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ بِأَنْ يَرْحَمَنَا اللهُ تعالى، وَلَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ تعالى ذَلِكَ في القُرْآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى عَلَى لِسَانِ المُؤْمِنِينَ: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى مُخَاطِبًا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾

أَسْأَلُ اللهَ تعالى رَحْمَةً تَشْمَلُنَا مَعَ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَمَنْ أَسَأْنَا إِلَيْهِ وَمَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا. اللَّهُمَّ آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 9/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 26/ تشرين الأول / 2020م