16ـ السيدة آمنة رضي الله عنها لا تغيب ذكراها

16ـ السيدة آمنة رضي الله عنها لا تغيب ذكراها

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَحَلَتِ السَّيِّدَةُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، مِنْ دَارِ الفَنَاءِ إلى دَارِ البَقَاءِ، رَحَلَتْ وَقَدْ تَرَكَتْ وَلَدَهَا سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، يَتِيمَ الأَبَوَيْنِ، في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِيَنْعَمَ بِحَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِيَنْعَمَ وَيُكَرَّمَ بِالاصْطِفَاءِ للنُّبُوَّةِ وَللرِّسَالَةِ، بَلْ لِيَكُونَ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ، تَرَكَتْهُ السَّيِّدَةُ آمِنَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا لِيُحَوِّلَ العَالَمَ أَجْمَعَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى مِنْ عُبَّادِ وَثَنٍ إلى عِبَادٍ للهِ تعالى، وَلِيَنْقُلَ العَالَمَ أَجْمَعَ مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، وَمِنَ التَّمَزُّقِ وَالتَّشَرْذُمِ إلى أَنْ يَكُونُوا كَالجَسَدِ الوَاحِدِ.

رَحَلَتِ السَّيِّدَةُ آمِنَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، مِنْ دَارِ الفَنَاءِ إلى دَارِ البَقَاءِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَرْحَلْ مِنْ ذَاكِرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ بَقِيَ طَيْفُهَا العَزِيزُ يَصْحَبُهُ مَدَىَ حَيَاتِهِ، وَبَقِيَتْ ذِكْرَاهَا تُرَاوِحُهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَأَنَّى أَقَامَ، بَقِيَ طَيْفُهَا يُثِيرُ فِيهِ أَعْمَقَ عَوَاطِفِ البِرِّ وَالرَّحْمَةِ.

رَحَلَتْ وَمَا رَحَلَتْ مِنْ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ أَمْرٍ كَانَ يُذَكِّرُهُ بِهَا كَانَ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُهُ بِهَذِهِ السَّيِّدَةِ الفَاضِلَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ:

لَقَدْ كَانَتْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ مُرْضِعَتَهُ، تُذَكِّرُهُ بِأُمِّهِ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَكَانَ يَصِلُهَا وَهِيَ بِمَكَّةَ، وَلَمَّا هَاجَرَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ ظَلَّ يَبْعَثُ إِلَيْهَا بِصِلَةٍ وَكِسْوَةٍ حَتَّى تَوَفَّاهَا اللهُ تعالى، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السِّيَرِ في إِسْلَامِهَا، وَإِنِّي أَرْجُو اللهَ تعالى بِبَرَكَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ أُكْرِمَ بِنِعْمَةِ الإِسْلَامِ.

أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ الحَبَشِيَّةُ:

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأُمِّ أَيْمَنَ بَرَكَةَ الحَبَشِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا التي كَانَتْ حَاضِنَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّهِ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهَا بِقَوْلِهِ: «يَا أُمَّهُ» وَكُلَّمَا رَآهَا تَذَكَّرَ رِحْلَتَهَا مَعَ أُمِّهِ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي» وَإِذَا خَاطَبَهَا قَالَ لَهَا: «أَنْتِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي». لَقَدْ كَانَتْ تُذَكِّرُهُ بِأُمِّهِ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ:

أَمَّا عَنْ أُمِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ السَّيِّدَةِ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ فَحَدِّثْ عَنْ بِرِّهِ بِهَا وَلَا حَرَجَ، حَيْثُ كَانَتْ تُذَكِّرُهُ بِأُمِّهِ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَكَانَ تَعَامُلُهُ مَعَهَا يُعَبِّرُ عَمَّا يَحْتَوِيهِ قَلْبُهُ الشَّرِيفُ مِنْ حُبِّهِ للأُمُومَةِ في أَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهَا.

روى الحاكم أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا أَحْمِلُ عُضْوَ الْبَعِيرِ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ (اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ) فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ.

فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

لَقَدْ رَأَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُمَّهُ السَّيِّدَةَ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، في السَّيِّدَةِ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، حَيْثُ كَانَتْ تُذَكِّرُهُ بِأُمِّهِ، كَمَا رَآهَا في حَاضِنَتِهِ أُمِّ أَيْمَنَ بَرَكَةَ الحَبَشِيَّةِ حَيْثُ كَانَتْ تُذَكِّرُهُ بِأُمِّهِ، كَمَا رَآهَا في ثُوَيْبَةَ التي أَرْضَعَتْهُ.

بَلْ رَأَى مَلَامِحَ أُمِّهِ الرَّاحِلَةِ في زَوْجِهِ الرَّؤُومِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، تِلْكَ التي سَكَنَ إِلَيْهَا مُنْذُ بَلَغَ الخَامِسَةَ وَالعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ إلى أَنْ لَحِقَتْ بِرَبِّهَا قُبَيْلَ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، لَمْ يَسْتَبْدِلْ بِهَا سِوَاهَا وَلَا ضَمَّ إِلَيْهَا زَوْجَةً غَيْرَهَا، وَلَا نَسِيَ لَهَا طُولَ عُمُرِهِ، مَا عَوَّضَتْهُ مِنْ حَنَانِ الأُمُومَةِ الذي افْتَقَدَهُ مُنْذُ وَدَّعَ أُمَّهُ في الأَبْوَاءِ.

وَتَمَثَّلَهَا في كُلِّ أُمٍّ تَحْنُو عَلَى وَلَدِهَا، فمَا عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفَعِلُ بِمِثْلِ تِلْكَ العَاطِفَةِ الفَيَّاضَةِ التي كَانَ يَجِدُهَا أَمَامَ مَشْهَدِ الأُمُومَةِ، وَلَا وَجَدَ مَا يُمَثِّلُ بِهِ لِأَصْحَابِهِ رَحْمَةَ اللهِ بِعِبَادِهِ، أَقْوَى مِنْ حُنُوِّ الأُمِّ، في صَحِيحِ الحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.

فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ».

قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.

فَقَالَ: «للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» رواه الإمام البخاري.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَامِرَ القَلْبِ بِذِكْرَى أُمِّهِ، حينَ ارْتَقَى بِالأُمُومَةِ إلى مَا فَوْقَ البَشَرِيَّةِ، فَوَضَعَ الجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِهَا، وَجَعَلَ البِرَّ بِهَا مُقَدَّمًا عَلَى فَضْلِ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، إِذْ جَاءَهُ الصَّحَابِيُّ مُعَاوِيَةُ بْنُ جَاهِمَةَ السُّلَمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَسْتَأْذِنُهُ بِالخُرُوجِ للجِهَادِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ الرَّسُولُ: «أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» وَقَالَ: نَعَمْ، أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا فَيَبَرَّهَا، وَعَادَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَأْذِنُ في الخُرُوجِ للجِهَادِ، فَأَعَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَهُ عَنْ أُمِّهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا فَيَبَرَّهَا.

فَلَمَّا كَانَتِ المَرَّةُ الثَّالِثَةُ، وَعَادَ مُعَاوِيَةُ يُلِحُّ في الظَّفَرِ بِشَرَفِ الجِهَادِ، كَرَّرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَهُ: «أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

فَمَا كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ قَالَ: «وَيْحَكَ! الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الجَنَّةَ» وَفي رِوَايَةٍ: «فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الجَنَّة تَحْتَ قَدَمَيْهَا».

وَإِنَّ الإِنْسَانِيَّةَ لَتُصْغِي اليَوْمَ، وَغَدًا، إلى قَوْلِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَلَا يَغِيبُ عَنِ البَشَرِيَّةِ أَنْ تَلْمَحَ طَيْفَ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، مِلْءَ ذَلِكَ القَلْبِ الكَبِيرِ الذي يَنْبِضُ بِأَسْمَى مَا تَعْرِفُ البَشَرِيَّةُ مِنْ عَاطِفَةِ البِرِّ بِالأُمُومَةِ وَتَكْرِيمِهَا.

وَأَيُّ مَطْمَحٍ للبَشَرِيَّةِ إِذْ تَتَسَامَى بِالأُمِّ، وَاهِبَةِ الحَيَاةِ، وَرَاءَ الذي يُقَالُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ آمِنَةَ، المُصْطَفَى بَشَرًا رَسُولًا: «لَوْ أَدْرَكْتُ وَالِدَيَّ أَوْ أَحَدَهُمَا وَأَنَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَقَدْ قَرَأْتُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ تُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، لَأَجَبْتُهَا: لَبَّيْك» رواه البيهقي عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا حَنَانَ الأُمَّهَاتِ، وَارْزُقْنَا بِرَّهُنَّ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/ ذو القعدة /1442هـ، الموافق: 1/ تموز / 2021م