10ـ الدروس والعبر من معجزة الإسراء والمعراج

10ـ الدروس والعبر من معجزة الإسراء والمعراج

 

أولًا: بَعْدَ كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ، وَقَدْ تَعَرَّضَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمَحَنٍ عَظِيمَةٍ، فَهَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَدَّتِ الطَّرِيقَ في وَجْهِ الدَّعْوَةِ في مَكَّةَ، وَفِي ثَقِيفٍ وَفِي قَبَائِلِ العَرَبِ، وَأَحْكَمَتِ الحِصَارَ ضِدَّ الدَّعْوَةِ وَرِجَالَاتِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في خَطَرٍ بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَكْبَرِ حُمَاتِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَاضٍ في طَرِيقِهِ، صَابِرٌ لِأَمْرِ رَبِّهِ، لَا تَأْخُذُهُ في اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَلَا حَرْبُ مُحَارِبٍ، وَلَا كَيْدُ مُسْتَهْزِئٍ فَقَدْ آنَ الأَوَانُ للمِنْحَةِ العَظِيمَةِ، فَجَاءَتْ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ عَلَى قَدَرٍ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ، فَيَعْرُجُ بِهِ مِنْ دُونِ الخَلَائِقِ جَمِيعًا، وَيُكْرِمُهُ عَلَى صَبْرِهِ وَجِهَادِهِ، وَيَلْتَقِي بِهِ مُبَاشَرَةً دُونَ رَسُولٍ وَلَا حِجَابٍ، وَيُطْلِعُهُ عَلَى عَوَالِمِ الغَيْبِ دُونَ الخَلْقِ كَافَّةً، وَيَجْمَعُهُ مَعَ إِخْوَانِهِ مِنَ الرُّسُلِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الإِمَامُ وَالقُدْوَةُ لَهُمْ وَهُوَ خَاتَمُهُمْ وَآخِرُهُمْ.

ثانيًا: إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُقْدِمًا عَلَى مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ، مَرْحَلَةِ الهِجْرَةِ، وَالانْطِلَاقِ لِبِنَاءِ الدَّوْلَةِ، يُرِيدُ اللهَ تعالى لِلَّبِنَاتِ الأُولَى في البِنَاءِ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً قَوِيَّةً مُتَرَاصَّةً مُتَمَاسِكَةً، فَجَعَلَ اللهُ هَذَا الاخْتِبَارَ وَالتَّمْحِيصَ، لِيُخَلِّصَ الصَّفَّ مِنَ الضِّعَافِ المُتَرَدِّدِينَ، وَالذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَيُثَبِّتَ المُؤْمِنِينَ الأَقْوِيَاءَ الخُلَّصَ الذينَ لَمَسُوا عَيَانًا صِدْقَ نَبِيِّهِمْ بَعْدَ أَنْ لَمَسُوهُ تَصْدِيقًا، وَشَهِدُوا مَدَى كَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَأَيُّ حَظٍّ يَحُوطُهُمْ وَأَيُّ سَعْدٍ يَغْمُرُهُمْ وَهُمْ حَوْلَ هَذَا النَّبِيِّ المُصْطَفَى وَقَدْ آمَنُوا بِهِ، وَقَدَّمُوا حَيَاتَهُمْ فِدَاءً لَهُ وَلِدِينِهِمْ، كَمْ يَتَرَسَّخُ الإِيمَانُ في قُلُوبِهِمْ أَمَامَ هَذَا الحَدَثِ الذي تَمَّ بَعْدَ وَعَثَاءِ الطَّائِفِ، وَبَعْدَ دُخُولِ مَكَّةَ بِجِوَارٍ وَبَعْدَ أَذَى الصِّبْيَانِ وَالسُّفَهَاءِ.

فَالصَّبْرُ أَيَّامَ الفِتَنِ لَا يُطِيقُهَا إِلَّا القِلَّةُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾.

فَأَيَّامُ المِحَنِ تُخْرِجُ الدَّاعِيَ إلى اللهِ تعالى مُمَحَّصًا، قَوِيَّ الشَّكِيمَةِ، شَدِيدَ العَزِيمَةِ، مُؤْمِنًا حَقًّا، وَيَعْرِفُ نَفْسَهُ أَنَّهُ سَائِرٌ في طَرِيقِ الجَنَّةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».

أَيَّامُ المِحَنِ تَدْفَعُ العَبْدَ إلى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالرَّجَاءِ وَصِدْقِ الالْتِجَاءِ، وَيَقُولُ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾. كَلِمَاتٌ تَجْعَلُ القَلْبَ يَشْعُرُ بِالأُلُوهِيَّةِ الحَقَّةِ، وَأَنَّ اللهَ تعالى مَعَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.

ثالثًا: إِنَّ شَجَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العَالِيَةَ تَتَجَسَّدُ في مُوَاجَهَتِهِ للمُشْرِكِينَ بِأَمْرٍ تُنْكِرُهُ عُقُولُهُمْ وَلَا تُدْرِكُهُ في أَوَّلِ الأَمْرِ تَصَوُّرَاتُهُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الجَهْرِ بِهِ الخَوْفُ مِنْ مُوَاجَهَتِهِمْ، وَتَلَقِّي نَكِيرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ فَضَرَبَ بِذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ في الجَهْرِ بِالحَقِّ أَمَامَ أَهْلِ البَاطِلِ، وَإِنْ تَحَزَّبُوا ضِدَّ الحَقِّ وَجَنَّدُوا لِحَرْبِهِ كُلَّ مَا في وُسْعِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في إِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَى المُشْرِكِينَ أَنْ حَدَّثَهُمْ عَنْ إِسْرَائِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَظْهَرَ اللهُ لَهُ عَلَامَاتٍ تُلْزِمُ الكُفَّارَ بِالتَّصْدِيقِ؛ مِنْ هَذِهِ العَلَامَاتِ:

1ـ وَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَقَدْ أَقَرُّوا بِصِدْقِ الوَصْفِ وَمُطَابَقَتِهِ للوَاقِعِ الذي يَعْرِفُونَهُ.

2ـ إِخْبَارُهُ عَنِ العِيرِ، وَقَدْ تَأَكَّدَ المُشْرِكُونَ فَوَجَدُوا أَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ صَحِيحًا.

فَهَذِهِ الأَدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ كَانَتْ مُفْحِمَةً لَهُمْ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهَا أَنْ يَتَّهِمُوهُ بِالكَذِبِ، كَانَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ العَظَيمَةُ تَرْبِيَةً رَبَّانِيَّةً رَفِيعَةَ المُسْتَوَى، وَأَصْبَحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَرَى الأَرْضَ كُلَّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ مَخْلُوقَاتٍ نُقْطَةً صَغِيرَةً في ذَلِكَ الكَوْنِ الفَسِيحِ، ثُمَّ مَا مَقَامُ كُفَّارِ مَكَّةَ في هَذِهِ النُّقْطَةِ؟ إِنَّهُمْ لَا يُمَثِّلُونَ إِلَّا جُزْءًا يَسِيرًا جِدًّا مِنْ هَذَا الكَوْنِ، فَمَا الذي سَيَفْعَلُونَهُ تُجَاهَ مَنِ اصْطَفَاهُ اللهُ تعالى مِنْ خَلْقِهِ، وَخَصَّهُ بِتِلْكَ الرِّحْلَةِ العَلِيَّةِ المَيْمُونَةِ وَجَمَعَهُ بِالمَلَائِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَرَاهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَسِدْرَةَ المُنْتَهَى وَالبَيْتَ المَعْمُورَ، وَكَلَّمَهُ جَلَّ وَعَلَا؟

رابعًا: إِنَّ شُرْبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اللَّبَنَ حِينَ خُيِّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخَمْرِ، وَبِشَارَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هُدِيتَ للفِطْرَةِ، تُؤَكِّدُ أَنَّ هَذَا الإِسْلَامَ دِينُ الفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ التي يَنْسَجِمُ مَعَهَا، فَالذي خَلَقَ الفِطْرَةَ البَشَرِيَّةَ خَلَقَ لَهَا هَذَا الدِّينَ الذي يُلَبِّي نَوَازِعَهَا وَاحْتِيَاجَاتِهَا، وَيُحَقِّقُ طُمُوحَاتِهَا وَيَكْبَحُ جِمَاحَهَا ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

خامسًا: إِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالأَنْبِيَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَلَّمُوا لَهُ القِيَادَةَ وَالرِّيَادَةَ، وَأَنَّ شَرِيعَةَ الإِسْلَامِ نَسَخَتِ الشَّرَائِعَ السَّابِقَةَ، وَأَنَّهُ وَسِعَ أَتْبَاعَ هَؤُلَاء الأَنْبِيَاءِ مَا وَسِعَ أَنْبِيَاءَهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا القِيَادَةَ لِهَذَا الرَّسُولِ وَلِرِسَالَتِهِ التي لَا يَأْتِيهَا البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا وَلَا مِنْ خَلْفِهَا.

إِنَّ عَلَى الذينَ يَعْقِدُونَ مُؤْتَمَرَاتِ التَّقَارُبِ بَيْنَ الأَدْيَانِ أَنْ يُدْرِكُوا هَذِهِ الحَقِيقَةَ، وَيَدْعُوا إِلَيْهَا، وَهِيَ ضَرُورَةُ الانْخِلَاعِ عَنِ الدِّيَانَاتِ المُنْحَرِفَةِ، وَالإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَتِهِ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُدْرِكُوا حَقِيقَةَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ المَشْبُوهَةِ، التي تَخْدُمُ وَضْعًا مِنَ الأَوْضَاعِ أَو نِظَامًا مِنَ الأَنْظِمَةِ الجَاهِلِيَّةِ.

سادسًا: إِنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ المَسْجِدِ الأَقْصَى، وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَرَاءَهُ حِكَمٌ وَدَلَالَاتٌ وَفَوَائِدُ؛ مِنْهَا:

1ـ أَهَمِّيَّةُ المَسْجِدِ الأَقْصَى بِالنِّسْبَةِ للمُسْلِمِينَ، إِذْ أَصْبَحَ مَسْرَى رَسُولِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِعْرَاجَهُ إلى السَّمَاوَاتِ العُلَا، وَكَانَ لَا يَزَالُ قِبْلَتَهُمُ الأُولَى طِيلَةَ الفَتْرَةِ المَكِّيَّةِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ وَإِرْشَادٌ للمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُحِبُّوا المَسْجِدَ الأَقْصَى وَفِلَسْطِينَ؛ لِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ وَمُقَدَّسَةٌ.

2ـ الرَّبْطُ يُشْعِرُ المُسْلِمِينَ بِمَسْؤُولِيَّتِهِمْ نَحْوَ المَسْجِدِ الأَقْصَى بِمَسْؤُولِيَّةِ تَحْرِيرِ المَسْجِدِ الأَقْصَى مِنْ أَوْضَارِ الشِّرْكِ وَعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، كَمَا أَنَّ مَسْؤُولِيَّتَهُمْ أَيْضًا تَحْرِيرُ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِنْ أَوْضَارِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ.

3ـ الرَّبْطُ يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّهْدِيدَ للمَسْجِدِ الأَقْصَى، هُوَ تَهْدِيدٌ للمَسْجِدِ الحَرَامِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّ النَّيْلَ مِنَ المَسْجِدِ الأَقْصَى تَوْطِئَةٌ للنَّيْلِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَالمَسْجِدُ الأَقْصَى بَوَّابَةُ الطَّرِيقِ إلى المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَزَوَالُ المَسْجِدِ الأَقْصَى مِنْ أَيْدِي المُسْلِمِينَ، وَوُقُوعُهُ في أَيْدِي اليَهُودِ يَعْنِي أَنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَالحِجَازَ قَدْ تَهَدَّدَ الأَمْنُ فِيهِمَا وَاتَّجَهَتْ أَنْظَارُ الأَعْدَاءِ إِلَيْهِمَا لِاحْتِلَالِهِمَا.

سابعًا: أَهَمِّيَّةُ الصَّلَاةِ وَعَظِيمُ مَنْزِلَتِهَا: وَقَدْ ثَبَتَ في السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ عَلَى الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ في لَيْلَةِ عُرُوجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى السَّمَاوَاتِ، وَفِي هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا.

فَعَلَى الدُّعَاةِ أَنْ يُؤَكِّدُوا عَلَى أَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَذْكُرُوا فِيمَا يَذْكُرُونَ، مِنْ أَهَمِّيَّتِهَا وَمَنْزِلَتِهَا كَوْنَهَا فُرِضَتْ في لَيْلَةِ المِعْرَاجِ، وَأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَوْصَى بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ.

ثامنًا: شَقُّ الصَّدْرِ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ وَدَوْرُهُ في التَّهْيِئَةِ للمِعْرَاجِ:

هُنَا وَقْفَةٌ أُخْرَى: مَا الحَاجَةُ إلى شَقِّ الصَّدْرِ، وَغَسْلِ القَلْبِ بِزَمْزَمَ، وَمَلْئِهِ إِيمَانًا وَحِكْمَةً وَيَقِينًا؟ السَّلَفُ كَانُوا يَقُولُونَ: مِنْ بَابِ التَّبَرُّكِ، وَزِيَادَةِ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ، أَمَّا نَحْنُ الآنَ فَنَسْتَطِيعُ أَنْ نُضِيفَ شَيْئًا جَدِيدًا؛ لِأَنَّنَا في زَمَنِ غَزْوِ الفَضَاءِ، وَفِي زَمَنِ تَدْرِيبِ وَتَهْيِئَةِ رِجَالِ الفَضَاءِ، فَهُمْ تَأْخُذُهُمُ الدُّوَلُ، وَتُجْرَى لَهُمُ التَّجَارِبُ، وَتُؤْخَذُ لَهُمُ الاحْتِيَاطَاتُ في زَمَنٍ طَوِيلٍ، ثُمَّ يُلْبَسُونَ مِنَ اللِّبَاسِ مَا يَحْمِيهِمْ مِنَ المُتَغَيِّرَاتِ التي سَيَتَعَرَّضُونَ لَهَا، وَيُوضَعُونَ في مَرْكَبَاتٍ خَاصَّةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ المَرْكَبُ لَاحْتَرَقُوا مِنْ سُرْعَةِ وَقُوَّةِ احْتِكَاكِهِمْ بِالهَوَاءِ.

كَانَ ذَاكَ العَمَلُ يُحَوِّلُ مِنْ شَخْصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَشَرٍ عَادِيٍّ إلى بَشَرٍ فَوْقَ العَادِيِّ مِنَ النَّاحِيَةِ المَادِّيَّةِ وَالجِسْمَانِيَّةِ، لِيَسْتَطِيعَ أَنْ يُقَاوِمَ وَأَنْ يَخْتَرِقَ هَذَا الفَضَاءَ مَعَ سُرْعَةِ الانْتِقَالِ وَشِدَّةِ الاحْتِكَاكِ دُونَمَا ضَرَرٍ عَلَيْهِ.

وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ ـ وَهُوَ أَقْوَى وَأَهَمُّ ـ تَهْيِئَةٌ يَقِينِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ رُوحِيَّةٌ لِيَقْوَى عَلَى القِيَامِ في ذَاكَ المَقَامِ الذي ذَكَرَهُ القُرْآنُ: بِالتَّنْوِيهِ عَنْهُ: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾. ثُمَّ ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾.

فَتِلْكَ الآيَاتُ الكُبْرَى يَزِيغُ بَصَرُ الإِنْسَانِ العَادِيِّ عَنْهَا، وَلَا يَقْوَى عَلَى تَصَوُّرِهَا، وَيَطْغَى فُؤَادُهُ فَلَا يَقْوَى عَلَى إِدْرَاكِ مَا هُوَ أَمَامَهُ، أَيْ: تَأْخُذُهُ دَهْشَةُ المَوْقِفِ، وَلَكِنَّ مَا سَبَقَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ رَابِطَ الجَأْشِ، ثَابِتَ القَدَمِ، حَادَّ البَصَرِ، ثَابِتَ الجَنَانِ، قَوِيَّ القَلْبِ، مَا زَاغَ بَصَرُهُ عَمَّا رَأَى مِنْ سِدْرَةِ المُنْتَهَى ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾.

تاسعًا: الإِيمَانُ بِالغَيْبِ في الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتَيْتُ ـ وَفِي رِوَايَةِ هَدَّابٍ: مَرَرْتُ ـ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَعْنِي: هُوَ مُتَأَكِّدٌ وَلَيْسَتْ بِأَوْهَامٍ أَو رُؤًى، بَلْ يَقُولُ: لَو كُنْتُ مَوْجُودًا الآنَ في مَحَلِّ ذَاكَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ لَقُلْتُ لَكُمْ: هُنَا قَبْرُ مُوسَى، وَهُنَا كَانَ يُصَلِّي، روى الشيخان عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ».

مَعَالِمُ في طَرِيقِهِ تَنْفِي الادِّعَاءَ وَالتَّوَهُّمَ، وَحَقَائِقُ يَقِينِيَّةٌ، ثُمَّ إِذَا بِهِ يَرَى مُوسَى مَعَ الأَنْبِيَاءِ في اسْتِقْبَالِهِ، وَيَرَاهُ أَيْضًا في السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، كَانَ في الأَرْضِ ثُمَّ هُوَ في السَّمَاوَاتِ! كَيْفَ هذا؟! مَرَّ عَلَيْهِ بِالبُرَاقِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِذَا بِهِ يَجِدُهُ أَمَامَهُ في السَّمَاءِ! اسْحَبُوا الكَيْفَ، فَالكَيْفُ هُنَا مُلْغًى، فَلَا يُورَدُ السُّؤَالُ بِالكَيْفِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ عَلَى مَا كَانَ فَوْقَ العَادَةِ وَمَا كَانَ خَارِقًا مِنَ المُعْجِزَاتِ، لَا تَقُلْ: كَيْفَ نَبَعَ المَاءُ مِنْ أَصَابِعِهِ؟ كَيْفَ سَبَّحَ الحَصَى في كَفِّهِ؟ كَيْفَ حَنَّ الجِذْعُ إِلَيْهِ؟ كَيْفَ بَرَدَتِ النَّارُ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ لِأَنَّ الكَيْفَ لَا يُسْأَلُ بِهِ عَنِ اللهِ وَلَا صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ

إِذًا: سَيِّدُنَا مُوسَى كَانَ يُصَلِّي في قَبْرِهِ، وَهَلِ الذينَ دَفَنُوا سَيِّدَنَا مُوسَى جَعَلُوا لَهُ حُجْرَةً كَبِيرَةً، لِأَنَّهُ سَيَقُومُ وَيَقِفُ وَيُصَلِّي، أَمْ أَنَّ هَذَا عَالَمُ البَرْزَخِ؟ هَذَا عَالَمُ البَرْزَخِ، وَعَالَمُ البَرْزَخِ لَا يَخْضَعُ للمَعْقُولَاتِ وَلَا للمَنْطِقِ، إِنَّهُ وَرَاءَ المَعْقُولِ.

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ الذي لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى: «إِنَّمَا القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَجَاءَ في الحَدِيثِ أَيْضًا: «فَيَقْعُدُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ» رواه الحاكم.

التُّرَابُ كَمْ فِيهِ مِنَ المَلَايِينِ؟ وَلَوْ مُدَّ لِاثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَةٍ أَو وَاحِدٍ مَدَّ البَصَرِ فَأَيْنَ البَقِيَّةِ؟! إِذًا: لَا تَقُلْ: كَيْفَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَارِيخِهِ في وَقْعَةِ البَحْرَيْنِ: لَمَّا ذَهَبَ العَلَاءُ بْنُ الحَضْرَمِيِّ وَوَجَدَ العَدُوَّ قَدْ حَازَ السُّفُنَ إلى الجَزِيرَةِ قَالَ لِجُنْدِهِ: إِنِّي عَازِمٌ عَلَى أَمْرٍ.

قَالُوا: وَمَا هُوَ؟

قَالَ: أَنْ أَخُوضَ البَحْرَ وَنَعْبُرَهُ لِنُقَاتِلَ العَدُوَّ ـ لَيْسَ عِنْدَهُ سُفُنٌ وَيُرِيدُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى المَاءِ ـ وَقَدْ أَرَاكُمُ اللهُ في البَرِّ آيَةً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرِيَكُمْ في البَحْرِ آيَةً.

وَالآيَةُ التي أَرَاهُمُ اللهُ تعالى في البَرِّ أَنَّهُمْ كَانُوا في صَحْرَاءِ الدَّهْنَاءِ، وَتِلْكَ المِنْطِقَةُ تَبْعُدُ عَنِ الرِّيَاضِ حَوَالَيْ سَبْعَمِئَةِ كِيلُو مِتْرٍ وَكُلُّهَا رِمَالٌ، حِينَهَا نَفَدَ مَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا المَوْتُ، فَإِذَا بِهِمْ في سَاعَةِ اليَأْسِ وَالشِّدَّةِ يَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ في وَضَحِ النَّهَارِ إلى سَحَابَةٍ تَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ حَتَّى تَقِفَ فَوْقَهُمْ، وَتُمْطِرَ عَلَيْهِمْ.

سُبْحَانَ اللهِ! مَا الذي أَوْقَفَهَا عِنْدَهُمْ؟! لِمَاذَا لَمْ تَحُطَّ حِمْلَهَا هُنَاكَ؟ لِمَاذَا لَمْ تَتَعَدَّاهُمْ؟ لَقَدْ كَانَ مَعَهَا تَوْقِيتٌ، كَمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾. فَاللهُ هُوَ الذي يَسُوقُ السَّحَاب وَيُسَخِّرُهُ وَيُرْسِلُهُ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ بِأَمْرِ اللهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْحَتُهُمْ؟ لَمْ يَكُونُوا نَائِمِينَ وَقَامُوا وَرَأَوُا المَاءَ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهَا بِأَعْيُنِهِمْ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 27/ذو الحجة /1442هـ، الموافق: 6/ آب / 2021م