179ـ الثقة المطلقة بالله تعالى

كلمة شهر محرم 1443

179ـ الثقة المطلقة بالله تعالى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ نَعِيشُ ذِكْرَى هِجْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، هَذِهِ الذِّكْرَى التي نَعِيشُهَا تُوجِبُ عَلَيْنَا أَخْذَ دُرُوسٍ وَعِبَرٍ مِنْهَا، لَعَلَّنَا مِنْ خِلَالِهَا نُصَحِّحُ سَيْرَنَا إلى اللهِ تعالى في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

الثِّقَةُ المُطْلَقَةُ بِاللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ دُرُوسِ الهِجْرَةِ وَعِبَرِهَا نَتَعَلَّمُ كَيْفَ تَكُونُ الثِّقَةُ بِاللهِ تعالى بَعْدَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ المَادِّيَّةِ.

لَقَدْ خَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ مُسْتَخْفِيًا، وَأَمَرَ الصِّدِّيقُ وَلَدَهُ عَبْدَ اللهِ أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا بِمَكَّةَ.

وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فَهِيرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارًا، وَيُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا لَيْلًا.

وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا بِالطَّعَامِ.

انْطَلَقَ المُشْرِكُونَ في إِثْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ أَدَقَّ لَحْظَةٍ مَرَّتْ بِهَا الإِنْسَانِيَّةُ في رِحْلَتِهَا الطَّوِيلَةِ، وَكَانَتْ لَحْظَةً حَاسِمَةً، فَإِمَّا امْتِدَادَ شَقَاءٍ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَإِمَّا افْتِتَاحَ سَعَادَةٍ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ لَا آخِرَ لَهَا، وَقَدْ حَبَسَتِ الإِنْسَانِيَّةُ أَنْفَاسَهَا، وَوَقَفَتْ خَاشِعَةً حِينَ وَصَلَ المُشْرِكُونَ إلى فَمِ الغَارِ، وَلَمْ يَبْقَ بيْنَهُمْ وَبَيْنَ العُثُورِ عَلَى مَنْشُودِهِمْ إِلَّا أَنْ يَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إلى تَحْتِ قَدَمَيْهِ.

وَلَكِنَّ اللهَ تعالى حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الأَمْرُ، وَرَأَوْا عَلَى بَابِ الغَارِ نَسْجَ العَنْكُبُوتِ، وَقَالَ تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

بَيْنَمَا هُمَا في الغَارِ، وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ آثَارَ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ.

فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».

وَفي ذلِكَ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

إِنَّهَا ثِقَةٌ مُطْلَقَةٌ بِاللهِ تعالى، وبِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، لَقَدْ أَخَذَ بِالأَسْبَابِ كَامِلَةً، لَكِنَّ ذَلَكَ كُلَّهُ لَمْ يُنْسِهِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تعالى، وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ.

عِنْدَمَا وَصَلَ المُشْرِكُونَ بَابَ الغَارِ، لَمْ يَضْطَرِبْ فُؤَادُهُ، وَلَمْ يَتَزَعْزَعْ، وَلَمْ يُرَع، لِأَنَّ اللهَ تعالى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

صُورَةٌ ثَانِيَةٌ تُجَلِّي لَنَا كَيْفَ تَكُونُ الثِّقَةُ بِاللهِ، وَذَلكَ عِنْدَمَا تَبِعَهُ سُرَاقَةُ، حَيْثُ وَضَعَتْ قُرَيْشٌ مِئَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ يَأْتِي بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيًّا أَو مَيْتًا.

رَكِبَ سُرَاقَةُ فَرَسَهُ، وَسَارَ في أَثَرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْدُو، وَعَثَرَ بِهِ الفَرَسُ، فَسَقَطَ عَنْهُ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَتْبَعَهُ، فَرَكِبَ في أَثَرِهِ، وَعَثَرَ بِهِ الفَرَسُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَسَقَطَ عَنْهُ، وَأَبَى إِلَّا أَنْ يَتْبَعَهُ، فَرَكِبَ في أَثَرِهِ، فَلَمَّا بَدَا لَهُ القَوْمُ رَآهُمْ، وَعَثَرَ بِهِ الفَرَسُ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَذَهَبَتْ يَدَاهُ في الأَرْضِ، وَسَقَطَ عَنْهُ، وَتَبِعَهُمَا دُخَانٌ كَالإِعْصَارِ.

وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّ الأَمْرَ لَا يَعْنِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ لَمْ يَضْطَرِبْ فُؤَادُهُ، وَلَمْ يَتَزَعْزَعْ، وَلَمْ يَرْتَعِد، بَلْ أَعْطَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كِتَابَ أَمَانٍ.

نَادَى سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ القَوْمَ: أَنْظِرُونِي أُكَلِّمْكُمْ، فَوَاللهِ لَا أُرِيبُكُمْ وَلَا يَأْتِيكُمْ مَعِيَ شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «قُلْ لَهُ: وَمَا تَبْتَغِي مِنَّا؟».

قَالَ: فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ.

قَالَ: قُلْت: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَك.

قَالَ: «اكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ» كذا في الرَّوْضِ الأُنُفِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَكَذَا تَكُونُ الثِّقَةُ بِاللهِ تعالى، كَانَ المُشْرِكُونَ يُطَارِدُونَهُ، وَيَتَتَّبَعُونَ آثَارَهُ، وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلى اليَوْمِ البَعِيدِ، الذي يَمْلِكُ فِيهِ أَتْبَاعُهُ تَاجَ كِسْرَى، وَعَرْشَ قَيْصَرَ، وَيَفْتَحُونَ خَزَائِنَ الأَرْضِ، لَقَدْ تَنَبَّأَ في هَذَا الظَّلَامِ الحَالِكَ بِهَذَا النُّورِ البَاهِرِ، وَقَالَ لِسُرَاقَةَ: كَيْفَ بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى وَمِنْطَقَتَهُ وَتَاجَهُ؟ كذا في أسد الغابة.

لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ وَالفَتْحِ المُبِينِ، وَلِدِينِهِ بِالظُّهُورِ العَامِّ، وَالفَتْحِ التَّامِّ، قَالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.

أَنْكَرَ ذَلِكَ قُصَّارُ النَّظَرِ، وَضِعَافُ العُقُولِ، وَاسْتَبْعَدَتْهُ قُرَيْشٌ، وَلَكِنَّ عَيْنَ النُّبُوَّةِ تَرَى البَعِيدَ قَرِيبًا ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا يَقِينًا صَادِقًا، وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 1/ محرم /1443هـ، الموافق: 9/ آب / 2021م