18ـ السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها (1)

18ـ السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها (1)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ، وَلَهُ المُلْكُ وَالحَمْدُ، وَلَهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَالفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ الجَمِيلُ، لَهُ المُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الخَيْرُ كُلُّهُ، شَمَلَتْ قُدْرَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ، يَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَخْفِضُ آخَرِينَ.

رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَهُ اجْتِبَاءٌ وَاصْطِفَاءٌ مِنْ خَلْقِهِ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾. هُوَ تَبَارَكَ وتعالى خَصَّ بَعْضَ الأَمْكِنَةِ بِالحُرْمَةِ وَالأَحْكَامِ، وَبَارَكَ قِطَعًا مِنَ الأَرْضِ، وَحَرَّمَ أَشْهُرًا، وَاصْطَفَى مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾. وَكَرَّمَ عِبَادًا ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ عَطَاءً غَيْرَ مَمْنُونٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في اجْتِبَائِهِ وَاصْطِفَائِهِ يَهَبُ مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ، عَطَاءً غَيْرَ مَمْنُونٍ، يَخْتَارُ عَنْ عِلْمٍ سَابِقٍ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. فَإِذَا قَضَى لِبَعْضِ خَلْقِهِ بِالفَضْلِ، وَكَتَبَ لَهُ مِنَ الحُسْنَى مَا قُدِّرَ لَهُ، فَذَلِكَ هُوَ العِزُّ الذي لَا يَهُونُ، وَالشَّرَفُ الذي يَعْلُو عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، وَذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.

وَمِنْ هَذَا المَقَامِ مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَنَتْلُو في هَذَا المَقَامِ قَوْلَهُ تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

وَقَدْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ في خِضَمِّ تَيَّارِ البَشَرِيَّةِ مَعَالِمَ يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ، بِهَا تُقَاسُ الكَمَالَاتُ، وَتُلْتَمَسُ فِيهَا القُدْوَةُ وَالأُسْوَةُ، وَيَبْقَى عَلَى مَدَى الدَّهْرِ سَيْلُ الهُدَى وَالنُّورِ يَتَدَفَّقُ مِنْهَا، يَتَطَلَّعُ إِلَيْهَا كُلُّ جِيلٍ، أُفُقًا مُشْرِقًا، وَأَنْجُمًا ثَوَاقِبَ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا مَا يَعْرِفُ بِهِ مَعَانِيَ الكَمَالِ وَالجَلَالِ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.

وَضَرَبَ اللهُ لِذَلِكَ أَمْثَالًا كَثِيرَةً في القُرْآنِ الكَرِيمِ مِنْ قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالرُّوَّادِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالأُمَمِ وَالأَفْرَادِ ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.

فَاخْتَارَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً في الأَرْضِ: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. وَجَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ خُلَفَاءَ في الأَرْضِ.

وَاخْتَارَ مِنْهُمُ الرُّسُلَ وَالأَنْبِيَاءَ لِيَكُونُوا شُمُوسَ هِدَايَةٍ وَدُعَاةَ خَيْرٍ ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.

وَاخْتَارَ أُمَّةَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِتَكُونَ خَيْرَ الأُمَمِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾.

﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.

وَاخْتَارَ مِنَ القُرُونِ جَمِيعًا قَرْنَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وَالمُرَادُ بِـ «قَرْنِي» قَرْنُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَارَ لِي مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابِي».

وَقَالَ: «فِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ، وَاخْتَارَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ، وَاخْتَارَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَةَ قُرُونٍ: الْقَرْنَ الْأَوَّلَ، وَالثَّانِيَ، وَالثَّالِثَ، وَالرَّابِعَ» رواه البزار كما في مجمع الزوائد.

وَاخْتَارَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ العَشَرَةَ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ، وَاخْتَارَ مِنَ العَشَرَةِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا، ثُمَّ بَعْدَ العَشَرَةِ أَهْلَ بَدْرٍ الكِرَامَ، ثُمَّ أَهْلَ أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، روى الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ».

وَاخْتَارَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَطَّهَرَهُمْ تَطْهِيرًا ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.

﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ».

وَاخْتَارَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.

وَاخْتَارَ مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ حُورِيَّةَ الدُّنْيَا التي فَاقَتْ حُورَ الجنَّةِ، روى الشيخان عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ».

روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا.

قَالَ: «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ».

فَمَنْ تَكُونُ خَدِيجَةُ؟

هَذَا مَا سَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ في الدَّرْسِ القَادِمِ إِنْ شَاءُ اللهُ تعالى.

اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 11/ محرم /1443هـ، الموافق: 19/ آب / 2021م