41ـ التقاء أهل الدنيا بأهل البرزخ

41ـ التقاء أهل الدنيا بأهل البرزخ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

الْتِقَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِأَهْلِ البَرْزَخِ

وَاتِّصَالُهُمْ بِهِمْ

الالْتِقَاءُ بِأَهْلِ البَرْزَخِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ العَوَالِمِ الغَيْبِيَّةِ، هُوَ وَاقِعٌ ثَابِتٌ للأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَلِكَ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ تعالى مِنْ قُوَّةِ الإِدْرَاكِ والاتِّصَالِ بِتِلْكَ العَوَالِمِ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾.

فَفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُ، وَالْتِقَاءَهُ بِهِمْ أَمْرٌ مُمْكِنُ الوُقُوعِ، يَسْهُلُ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ.

وَقَد ْقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ في مَعْنَى الآيَةِ: يَعْنِي بِذَلِكَ: وَاسْأَلْهُمْ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْتَمَعُوا بِهِ كُلُّهُمْ في تِلْكَ اللَّيلَةِ، وَلَقِيَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَهُمْ ـ حَكَى ذَلِكَ القَوْلَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدِ اجْتَمَعَ بِالأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، كَمَا صَحَّ في الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، في بَيْتِ المَقْدِسِ يَقَظَةً، وَصَلَّى بِهِمْ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ بِهِمْ في عَالَمِ السَّمَاوَاتِ، وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ اجْتَمَعَ في السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، الذي هُوَ حَيٌّ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَسَوْفَ يَنْزِلُ آخِرَ الزَّمَنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمُوتُ في عَالَمِ الأَرْضِ، كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ في الأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ.

وَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالأَنْبِيَاءِ في بَيْتِ المَقْدِسِ صَلَّى بِهِمْ إِمَامًا، كَمَا جَاءَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

وَلَمَّا اجْتَمَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ في السَّمَاوَاتِ، جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الأَحَادِيثُ عَنْ أَمْرِ السَّاعَةِ وَغَيْرِهَا.

كَمَا وَرَدَ في سُنَنِ الترمذي وَالمُسْنَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا.

فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا.

فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى عِيسَى، فَقَالَ: أَمَّا وَجْبَتُهَا ـ أَيْ: وَقْتُ وُقُوعِهَا ـ فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، ذَلِكَ وَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ، وَمَعِي قَضِيبَانِ، فَإِذَا رَآنِي، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، فَيُهْلِكُهُ اللهُ، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ، وَالشَّجَرَ لَيَقُولُ: يَا مُسْلِمُ، إِنَّ تَحْتِي كَافِرًا، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، قَالَ: فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ ـ أَيْ: يُهْلِكُ اللهُ تعالى الدَّجَّالَ وَأَتْبَاعَهُ ـ ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَطَؤُونَ بِلَادَهُمْ، لَا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيَّ ـ أَيْ: إلى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ فَيَشْكُونَهُمْ ـ أَيْ: فَيَشْكُونَ إلى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ أَذَى وَشَرِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ـ فَأَدْعُو اللهَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ وَيُمِيتُهُمْ، حَتَّى تَجْوَى الْأَرْضُ ـ تَتَغَيَّرُ ـ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمْ، قَالَ: فَيُنْزِلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ المَطَرَ، فَتَجْرُفُ أَجْسَادَهُمْ حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ .

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ: أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ ـ أَيْ: كَالحَامِلِ التي آنَ وَضْعُهَا ـ الَّتِي لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلَادَتِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا».

وَفي ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى اجْتِمَاعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُ بِلَا شَكٍّ، وَلَكِنْ تَأْوِيلُ الآيَةِ السَّابِقَةِ بِهَذَا الاجْتِمَاعِ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ فَحَسْبُ: فِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الآيَةَ وَهِيَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ الآيَةُ هِيَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَكَّنَهُ اللهُ تعالى بِالاجْتِمَاعِ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُ مَتَى أَرَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، دُونَ أَنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، كَمَا مَكَّنَ اللهُ تعالى رُسُلَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الاجْتِمَاعِ بِمَنْ مَضَى قَبْلَهُمْ:

فَقَدِ اجْتَمَعَ كَلِيمُ اللهِ مُوسَى حِينَ كَانَ في الدُّنْيَا بِصَفِيِّ اللهِ آدَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَرَى بَيْنَهُمَا الاحْتِجَاجُ:

جَاءَ في الصّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ ـ وَاللَّفْظُ لِأَبِي داود ـ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَرَاهُ اللهُ آدَمَ.

فَقَالَ: أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ؟

فَقَالَ لَهُ آدَمُ: نَعَمْ.

قَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟

فَقَالَ لَهُ آدَمُ: وَمَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: أَنَا مُوسَى.

قَالَ: أَنْتَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: أَفَمَا وَجَدْتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فِيمَ تَلُومُنِي فِي شَيْءٍ سَبَقَ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ الْقَضَاءُ قَبْلِي؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» الحديث.

وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ في كِتَابِنَا: الإِيمَانِ بِالمَلَائِكَة عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

وَفي هَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى اجْتِمَاعِ مُوسَى بِآدَمَ يَقَظَةً عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفي ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تعالى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ الآيَةَ. عَامٌّ في أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِلَيْلَةِ المِعْرَاجِ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 4/ جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 9/ كانون الأول / 2021م