4ـ الإخبار عن الغيوب

4ـ الإخبار عن الغيوب

 

القُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، المُنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هُوَ المُعْجِزَةُ العُظْمَى، وَالبَاقِيَةُ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَالأَزْمَانِ، المُعْجِزُ للأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَقَطْعًا لَيْسَ المُرَادُ في هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ حَصْرَ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ المُعْجِزَاتِ الحِسِّيَّةِ كَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، بَلِ المُرَادُ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ هُوَ المُعْجِزَةُ العُظْمَى التي اخْتُصَّ بِهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ، فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، فَهُوَ مَا زَالَ حُجَّةً قَائِمَةً لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الوُصُولَ إلى الحَقِّ، وَلِكُلِّ مَنْ أَرَادَ اللهُ تعالى إِكْرَامَهُ بِمُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ القُرْآنُ حُجَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، وَبِسِرِّ هَذِهِ المُعْجِزَةِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

لَقَدْ كَانَ القُرْآنُ العَظِيمُ آيَةً بَيِّنَةً، وَمُعْجِزَةً مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ كَانَ مُعْجِزَةً، وَمِنْ جِهَةِ نَظْمِهِ كَانَ مُعْجِزَةً، وَمِنْ جِهَةِ البَلَاغَةِ في دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى المَعْنَى كَانَ مُعْجِزَةً، وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ التي أَمَرَ بِهَا كَانَ مُعْجِزَةً.

لَقَدْ كَانَ القُرْآنُ العَظِيمُ مُعْجِزًا مِنْ حَيْثُ البَيَانُ وَالبَلَاغَةُ وَالتَّرْكِيبُ، وَتَحَدَّى الإِنْسَ وَالجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، أَو بِمِثْلِ عَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، أَو بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ، فَعَجَزُوا، وَكُلُّ هَذَا التَّحَدِّي كَانَ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَبَعْدَ الهِجْرَةِ أَعَادَ التَّحَدِّيَ في المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.

وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا في المَاضِي، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا التَّحَدِّيَ في المُسْتَقْبَلِ كَذَلِكَ ـ وَهَذَا مِنَ الإِعْجَازِ ـ إِذًا: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.

وَالقَرَارُ النِّهَائِيُّ جَاءَ مِنْ قَبْلِ الهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ للنَّاسِ جَمِيعًا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.

الإِخْبَارُ عَنِ الغُيُوبِ:

مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ القُرْآنِ أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الغُيُوبِ التي لَا عِلْمَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَلَا سَبِيلَ لِبَشَرٍ مِثْلِهِ أَنْ يَعْلَمَهَا، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، الذي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، قَالَ تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.

الإِخْبَارُ بِالغُيُوبِ أَنْوَاعٌ:

النَّوْعُ الأَوَّلُ: غُيُوبُ المَاضِي:

تَتَمَثَّلُ هَذِهِ الأَخْبَارُ الغَيْبِيَّةُ في القَصَصِ القُرْآنِيِّ، وَجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ مَاضِي الأَزْمَانِ، كَقِصَّةِ سَيِّدَنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، وَقِصَّةِ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِصَّةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِصَّةِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِصَّةِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَصَصِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ الذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: غُيُوبُ الحَاضِرِ:

حَيْثُ أَخْبَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِغُيُوبٍ حَاضِرَةٍ، كَكَشْفِ أَسْرَارِ المُنَافِقِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ في سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَفي سُورَةِ المُنَافِقُونَ، وَفي سُورَةِ البَقَرَةِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: غُيُوبُ المُسْتَقْبَلِ:

حَيْثُ أَخْبَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأُمُورٍ لَمْ تَقَعْ، ثُمَّ وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى، عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 16/شوال /1442هـ، الموافق: 28/ أيار / 2021م