47ـ إعادة الخلق بعد الموت (2)

47ـ إعادة الخلق بعد الموت (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ إِحْيَاءِ الطُّيُورِ عَلَى يَدِ الخَلِيلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللهُ تعالى في القُرْآنِ الكَرِيمِ بَعْدَ قِصَّةِ عُزَيْرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

اخْتَلَفَتِ الأَخْبَارُ المَنْقُولَةُ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ في سَبَبِ سُؤَالِ الخَلِيلِ ـ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ المَوْتَى.

فَجَاءَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ ذَلِكَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ مَرْتَبَةِ عِلْمِ اليَقِينِ إلى عَيْنِ اليَقِينِ.

وَقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ الذي رواه الإمام أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا، أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ».

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَالسُّدِّيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ المَلَكَ بَشَّرَ الخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ اللهَ تعالى قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَأَنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ، وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى بِدُعَائِهِ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ اللهَ مَا سَأَلَ.

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ سَبَبَ سُؤَالِ الخَلِيلِ ذَلِكَ، هُوَ مُنَازَعَةُ النُّمْرُودِ إِيَّاهُ في إِحْيَاءِ المَوْتَى، حِينَ قَالَ لَهُ الخَلِيلُ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وَرَدَّ عَلَى النُّمْرُودِ زَعْمَهُ أَنَّ العَفْوَ عَنِ المُجْرِمِ هُوَ إِحْيَاءٌ لَهُ، وَأَنَّ تَنْفِيذَ القَتْلِ فِيهِ إِمَاتَةٌ لَهُ، وَرَاحَ النُّمْرُودُ يَتَوَعَّدُ الخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالقَتْلِ إِنْ لَمْ يُحْيِ اللهُ المَوْتَى عَلَى يَدِ الخَلِيلِ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُ النُّمْرُودُ ذَلِكَ، فَدَعَا سَيِّدُنَا الخَلِيلُ رَبَّهُ حِينَئِذٍ فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾. أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ وَتُؤْمِنْ بِأَنِّي قَادِرٌ عَلَى الإِحْيَاءِ كَيْفَ أَشَاءُ حَتَّى تَسْأَلَنِي عَنْهُ؟

أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بِأَنِّي قَدِ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا، أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بِأَنَّ الجَبَّارَ النُّمْرُودَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْتُلَكَ ﴿قَالَ بَلَى﴾ أَيْ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ إِيمَانًا لَا شَكَّ فِيهِ ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ بِانْضِمَامِ رُؤْيَةِ العِيَانِ إلى الإِيمَانِ وَالإِيقَانِ بِأَنَّكَ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالخُلَّةِ التي تَفَضَّلْتَ بِهَا عَلَيَّ، وَأَكْرَمْتَنِي بِهَا وَبِلَوَازِمِهَا: مِنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، أَو لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِأَنَّ الجَبَّارَ لَا يَقْتُلُنِي بَعْدَمَا يُشَاهِدُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِكَ للمَوْتَى عَلَى يَدَيَّ.

وَعَلَى كُلٍّ فَسُؤَالُ الخَلِيلِ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَكٍّ أَصْلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى﴾ أَيْ: أَنَا مُؤْمِنٌ ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.

وَقَدْ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَابِرَ الوَهْمِ الذي يَتَلَاعَبُ في بَعْضِ الخَوَاطِرِ، فَيُخَيِّلُ إِلَيْهَا أَنَّ الخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدِ اعْتَرَاهُ بَعْضُ الشَّكِّ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ مَا سَأَلَ، فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ دَابِرَ الوَهْمِ البَاطِلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالتَّبْرِئَةِ كُلَّ البَرَاءَةِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى﴾» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيَعْنِي بِذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّا لَمْ نَشُكَّ أَصْلًا، فَلَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ أَصْلًا، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنْ شَكَّ إِبْرَاهِيمُ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ، وَلَكِنَّا نَحْنُ لَمْ نَشُكَّ، فَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَشُكَّ، صَلَوَاتُ اللهِ تعالى عَلَى حَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ وَآلِهِمَا أَجْمَعِينَ.

قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ أَيْ: مُخْتَلِفَةَ الأَنْوَاعِ.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا الغُرْنُوقُ، وَالطَّاوُوسُ، وَالدِّيكُ، وَالحَمَامَةُ؛ وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ المَقْصُودَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الطَّيْرِ مُتَنَوِّعَةٌ.

وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ بِذَلِكَ لِسُهُولَةِ مَا يُفْعَلُ بِهَا مِنَ التَّجْزِئَةِ وَالتَّوْزِيعِ، وَالتَّفْرِقَةِ عَلَى الجِبَالِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَزِيدِ قَابِلِيَّةِ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهَا مِنَ الرِّيشِ وَنَحْوِهِ، فَفِي جَمْعِهَا وَإِعَادَتِهَا وَإِحْيَائِهَا مَزِيدُ ظُهُورٍ لِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ.

﴿فَصُرْهُنَّ﴾ أَيْ: قَطِّعْهُنَّ أَجْزَاءً، وَاضْمُمْهُنَّ ﴿إِلَيْكَ﴾ وَاجْمَعْهُنَّ ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾.

وَبِهَذَا أَمَرَ اللهُ تعالى الخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَذْبَحَ تِلْكَ الطُّيُورَ، وَيَقْطَعَهَا إِرَبًا إِرَبًا، وَيُجَزِّئَهَا مَا اسْتَطَاعَ مِنَ التَّجْزِئَةِ، وَيَخْلِطَهَا إلى بَعْضِهَا، ثُمَّ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا.

وَاخْتُلِفَ في عِدَّةِ الجِبَالِ التي فَرَّقَهَا عَلَيْهَا، فَرُوِيَ أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ، وَرُوِيَ أَنَّهَا سَبْعَةٌ، وَرُوِيَ أَنَّهَا عَشَرَةٌ.

﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ أَيْ: سَاعِيَاتٍ مُسْرِعَاتٍ في العَدْوِ وَالعَوْدَةِ إِلَيْكَ.

وَالحِكْمَةُ في سَعْيِ الطُّيُورِ إِلَيْهِ مَشْيًا دُونَ الطَّيَرَانِ إِلَيْهِ هِيَ: أَنَّهَا لَو طَارَتْ لَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الطُّيُورِ المَيْتَةِ التي ذَبَحَهَا وَفَرَّقَهَا، أَو أَنَّ أَرْجُلَهَا أَو بَعْضَهَا غَيْرُ سَلِيمَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. غَالِبٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، حَكِيمٌ يَضَعُ الأَشْيَاءَ في مَوَاضِعِهَا.

وَفي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الأَمْرَ كَانَ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى مَرْأَى مِنَ النُّمْرُودِ وَمَلَئِهِ، لِيَكُونَ حُجَّةً للخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِمَةً عَلَى النُّمْرُودِ وَأَتْبَاعِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ القِصَّةُ بَعْدَمَا ذَكَرَ اللهُ تعالى المُحَاجَّةَ التي جَرَتْ بَيْنَ الخَلِيلِ وَالنُّمْرُودِ.

قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾.

فَهَذِهِ وَقَائِعُ ثَابِتَةٌ، أَجْرَاهَا اللهُ تعالى وَأَوْقَعَهَا، لِيُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَى العِبَادِ، وَلِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ المَوْتَى سُبْحَانَهُ، وَإِعَادَتِهِمْ إلى حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ في عَالَمٍ آخَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَيْ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/ شعبان /1443هـ، الموافق: 24/ آذار / 2022م