808ـ خطبة الجمعة: لا أريدك أن تكون من الخاسرين

808ـ خطبة الجمعة: لا أريدك أن تكون من الخاسرين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ أَفْضَلُ شُهُورِ العَامِ، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتعالى جَعَلَ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَمَبْنًى مِنْ مَبَانِيهِ العَظِيمَةِ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».

وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِّثْنِي عَنْ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ أبِيكَ سَمِعَهُ أَبُوكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنَ أَبِيكَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

قَالَ: نَعَمْ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَفي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيهِ يَتَجَلَّى فِيهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِالخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ، وَالتي مِنْ أَعْظَمِهَا مَا أَوْضَحَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ تَرْكَ الصِّيَامِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَهَا أَنَا أَقُولُ لِمَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ تَرْكَ الصِّيَامِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاللهِ يَا عَبْدَ اللهِ، وَيَا أَمَةَ اللهِ، لَا أُرِيدُ لَكُمَا أَنْ تَكُونَا مِنَ الخَاسِرِينَ، وَاعْلَمَا: أَنَّ جَمِيعَ الخَلْقِ لَو صَامُوا مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِ اللهِ شَيْئًا، وَلَو أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا جَميعًا مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلْكِ اللِهِ شَيْئًا، لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى يَقُولُ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾.

وَيَقُولُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. هَذَا أَوَّلًا.

ثَانِيًا: وَاللهِ لَا أُرِيدُ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ المَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى التي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا مِنَ المَحْرُومِينَ مِنْ مَغْفِرَةِ الغَفُورِ الغَافِرِ الغَفَّارِ التَّوَّابِ الرَّحِيمِ، وَلَا مِنَ المَحْرُومِينَ مِنَ العِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، وَلَا مِنَ المَحْرُومِينَ مِنْ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ التي أُعِدَّت للمُتَّقِينَ.

ثَالِثًا: وَاللهِ لَا أُرِيدُ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمَّةِ أَنْ يُضَيِّعَ أَجْرَ الصِّيَامِ، الذي قَالَ فِيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِئَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

رَابِعًا: وَاللهِ لَا أُرِيدُكَ أَيُّهَا الشَّابُ، وَأَيَّتُهَا الشَّابَّةُ، أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَيَّتُهَا المَرْأَةُ، أَنْ يُضَيِّعَ أَحَدُكُمُ الفَرْحَةَ التي يَجِدُهَا الصَّائِمُ عِنْدَ فِطْرِهِ في كُلِّ يَوْمٍ، وَيَجِدُهَا عِنْدَ فِطْرِهِ في آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَجِدُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».

مَا مَوْقِفُكَ يَا مَنْ حُرِمْتَ الصِّيَامَ عِنْدَ المَغْرِبِ عِنْدَمَا يَتَنَاوَلُ الصَّائِمُونَ طَعَامَ فِطْرِهِمْ وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؟ وَمَا مَوْقِفُكَ يَوْمَ عِيدِ الفِطْرِ وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؟ وَمَا مَوْقِفُكَ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَمَا يُدْعَى الصَّائِمُونَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَأَنْتَ مَحْرُومٌ مِنْ دُخُولِهَا؟ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ».

خَامِسًا: وَاللهِ لَا أُرِيدُ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَحَسِّرِينَ الذينَ أَفْطَرُوا شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ، حَيْثُ ضَيَّعُوا مِنَ الأَجْرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَفَعَهُ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أُخَاطِبُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ، وَخَاصَّةً كُلَّ مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ تَرْكَ الصِّيَامِ، هَلُمُّوا لِنَسْتَجِيبَ لِنِدَاءِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

وَلِنِدَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اسْتَجِيبُوا للهِ وَللرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَخُذُوا هَذِهِ البِشَارَةَ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟

قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَاحْذَرُوا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للاسْتِجَابَةِ لَكَ وَلِرَسُولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/شعبان /1443هـ، الموافق: 1/ نيسان / 2022م