7ـ شهر رمضان درة المواسم (2)

7ـ شهر رمضان درة المواسم (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ النَّاظِرَ في حَالِ سَلَفِ الأُمَّةِ يَرَى فِيهِمُ اجْتِهَادًا عَظِيمًا وَاسْتِكْثَارًا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، يَرَى مِنْ أُولَئِكَ الذينَ جَعَلَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَفْوَةً اصْطَفَاهُمْ في تِلْكَ القُرُونِ المُبَارَكَةِ، اسْتِزَادَةً مِنَ التَّقْوَى وَعَمَلًا بِالصَّالِحَاتِ، وَاشْتِغَالًا بِمَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ جَلَّ وَعَلَا.

حَتَّى إِنَّهُ قِيلَ في كَثِيرٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: إِنَّ القِيَامَةَ تَقُومُ غَدًا مَا قَدِرَ أَنْ يَزِيدَ في عَمَلِهِ شَيْئًا.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ شَمَّرُوا في طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، اجْتَهَدُوا في كُلِّ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهِمُوا وَعَقَلُوا أَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ، وَأَنَّهَا مَعْبَرٌ لَا مَقَرٌّ، الفَائِزُ فِيهَا مَنِ اجْتَهَدَ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْ زَادِ التَّقْوَى الذي أَمَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا بِالتَّزَوُّدِ بِهِ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالاشْتِغَالِ بِالطَّاعَاتِ عَلَى مَمَرِّ الأَزْمِنَةِ، وَمَهْمَا كَانَتِ الأَحْوَالُ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

إِنَّ النَّاظِرَ في سِيَرِ الأَنْبِيَاءِ وَمَا ذَكَرَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُمْ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ في الكِتَابِ الحَكِيمِ يَرَى أَنَّ مِنْ أَوْصَافِهِمُ التي وَصَفَهُمُ اللهُ بِهَا أَنَّهُمْ قَوْمٌ يُسَارِعُونَ في الخَيْرَاتِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا خَوَاصَّ عِبَادِهِ وَخُلَّصَ أَصْفِيَائِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.

شَهْرُ رَمَضَانَ دُرَّةُ المَوَاسِمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا بِرَحْمَتِهِ وَمِنَّتِهِ جَعَلَ العُمُرَ مَزْرَعَةً للآخِرَةِ، وَمِنْ عَظِيمِ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَ مِنَ المَوَاسِمِ مَا هُوَ مَحَلٌّ للاسْتِزَادَةِ مِنَ الخَيْرَاتِ وَالاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالمُسَابَقَةِ فِيمَا هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

فَمِنْ تِلْكَ المَوَاسِمِ؛ بَلْ مِنْ أَبْرَزِ تِلْكَ المَوَاسِمِ؛ بَلْ هُوَ دُرَّةُ المَوَاسِمِ شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ، الذي خَصَّهُ اللهُ تعالى بِمَزَايَا لَمْ تَكُنْ في غَيْرِهِ، لَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ تعالى مَحَلًّا لِنُزُولِ أَعْظَمِ وَأَقْدَسِ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، أَلَا وَهُوَ القُرْآنُ العَظِيمُ، قَالَ تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.

وَهُوَ شَهْرٌ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهَا بَابٌ مُغْلَقٌ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النِّيرَانِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهَا بَابٌ مَفْتُوحٌ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ».

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْـصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ».

هَذِهِ الفَضَائِلُ العَظِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَةِ هَذَا المَوْسِمِ، وَأَنَّهُ دُرَّةُ المَوَاسِمِ وَهُوَ مَحَلٌّ لِكَثِيرٍ مِنَ الخَصَائِصِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ التي يَسْتَكْثِرُ بِهَا العَبْدُ مِنْ زَادِ التَّقْوَى مِنَ الصَّالِحَاتِ التي يُسَرُّ بِهَا يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا.

أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَخَصِّ مَا اخْتُصَّ بِهِ هَذَا الشَّهْرُ وَتَمَيَّزَ بِهِ تِلْكَ العِبَادَةَ التي رَفَعَ اللهُ شَأْنَهَا وَعَظَّمَ قَدْرَهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».

وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى اخْتِصَاصِ اللهِ بِهَذِهِ العِبَادَةِ التي جَعَلَهَا دُونَ سَائِرِ العِبَادَاتِ لَهُ، مَعَ أَنَّ العَمَلَ كُلَّهُ لَهُ، فَالدِّينُ كُلُّهُ لَهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. لَكِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَيْهِ دُونَ سَائِرِ العِبَادَاتِ لِعَظِيمِ الأَجْرِ المُرَتَّبِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

هَذِهِ العِبَادَةُ رَتَّبَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهَا في هَذَا الشَّهْرِ مِنَ الفَضْلِ وَالأَجْرِ أَنْ تُغْفَرَ ذُنُوبُ الصَّائِمِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاغْتِنَامِ أَنْفَاسِ أَعْمَارِنَا في طَاعَتِكَ وَمَرْضَاتِكَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الثلاثاء: 4/ رمضان /1443هـ، الموافق: 5/نيسان / 2022م