8ـ توبة سيدنا ماعز بن مالك رضي الله عنه

8ـ توبة سيدنا ماعز بن مالك رضي الله عنه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ التَّوْبَةَ الصَّادِقَةَ هِيَ كَمَا قَالَ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾.

فَالوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ المُبَادَرَةُ إلى التَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ مُبَاشَرَةً، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ التَّوْبَةِ ذَنْبٌ آخَرُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: التَّوْبَةُ هِيَ سَبَبُ فَلَاحِ العَبْدِ دُنْيَا وَأُخْرَى، قَالَ تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

وَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّائِبِينَ الذينَ أَعْطَوْا دَرْسًا عَمَلِيًّا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ صَادِقٍ في إِيمَانِهِ، أَنْ يَتَعَجَّلَ بِالتَّوْبَةِ مَهْمَا كَلَّفَ الأَمْرَ.

تَوْبَةُ سَيِّدِنَا مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي.

فَقَالَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ».

قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ».

قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟».

فَقَالَ: مِنَ الزِّنَا.

فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَبِهِ جُنُونٌ؟».

فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ.

فَقَالَ: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟».

فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ (أَيْ: شَمَّ رَائِحَةَ فَمِهِ، طَلَبَ نَكْهَتَهُ بِشَمِّ فَمِهِ) فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ.

قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَزَنَيْتَ؟».

فَقَالَ: نَعَمْ.

فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ؛ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ.

قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً.

ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ».

قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.

قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ».

مِنْ أَكْبَرِ الجَرَائِمِ تَعْيِيرُ العَاصِي وَالمُذْنِبِ عَلَى ذَنْبِهِ، سَوَاءٌ في حُضُورِهِ أَو في غِيَابِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقِيعَةٌ في عِرْضِهِ وَإِسَاءَةٌ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ في ذَلِكَ إِعَانَةً للشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ تَأَذَّى مِنْهُ، وَرُبَّمَا يَدْفَعُهُ إلى التَّمَادِي في العِصْيَانِ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الوَاجِبِ عَلَى المُسْلِمِ تُجَاهَ أَخِيهِ إِذَا رَآهُ مُتَوَرِّطًا ف مَعْصِيَةٍ أَنْ يَنْصَحَهُ وَأَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ فَضِيحَتُهُ، هَذَا إِذَا كَانَ في حَقِّ الحَيِّ، فَكَيْفَ إِذَا مَاتَ، وَقَدْ تَابَ إلى اللهِ تعالى؟

لِنَسْمَعْ قِصَّةَ سَيِّدِنَا مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الأَسْلَمِيِّ كَمَ يَرْوِيهَا النَسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ قَالَ: جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِالزِّنَا يَقُولُ: أَتَيْتُ امْرَأَةً حَرَامًا.

كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ لَهُ: «أَنْكَحْتَهَا؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا.

قَالَ: «فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟».

قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي.

قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجَمَ، فَرُجِمَ.

فَسَمِعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ، حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ.

فَسَكَتَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً؛ فَمَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: «أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟».

فَقَالَا: نَحْنُ ذَا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ لَهُمَا: «كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ».

فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، غَفَرَ اللهُ لَكَ مَنْ يَأْكُلُ هَذَا؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ».

وَفي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْقَمِسُ فِيهَا».

هَذِهِ هِيَ التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ، نَدَمٌ يَحْرِقُ القَلْبَ، وَخْزٌ في الضَّمِيرِ، عَذَابٌ يُقْلِقُ الإِنْسَانَ، فَلَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَهْدَأُ، حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ذَنْبِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيْنَ تِلْكَ القُلُوبُ البَيْضَاءُ التي تَرْتَجِفُ إِذَا وَقَعَتْ في المَعْصِيَةِ، فَتُسَارِعُ إلى التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ؟

إِنَّ التَّسَاهُلَ بِالذُّنُوبِ طَرِيقُ السُّوءِ وَالخِذْلَانِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

كَمْ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَلَذَّذَتْ مِنْهُمَا العَيْنَانِ، وَطَرِبَتِ الأُذُنَانِ، لَكِنَّ عَاقِبَتَهُمَا الذُّلُّ وَالهَوَانُ، وَعَذَابُ النِّيرَانِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴿وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَاشَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَخُتِمَ لَهُ بِخَاتِمَةِ الأَتْقِيَاءِ، وَحُشِرَ مَعَ الأَتْقِيَاءِ بِرِفْقَةِ الأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

السبت: 8/ رمضان /1443هـ، الموافق: 9/ نيسان / 2022م