10ـ شهر رمضان شهر التلاوة

10ـ شهر رمضان شهر التلاوة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ أَبْوَابِ البِرِّ وَصُنُوفِ الخَيْرِ التي يَزْدَانُ بِهَا هَذَا الشَّهْرُ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، قِرَاءَةُ القُرْآنِ التي هِيَ شِفَاءُ القُلُوبِ، وَاسْتِقَامَةُ الأَحْوَالِ، فَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَخْبَرَ بِأَنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي للتي هِيَ أَقْوَمُ، وَهِدَايَتُهُ للتي هِيَ أَقْوَمُ في العَقَائِدِ وَالأَعْمَالِ وَالأَخْلَاقِ وَالأَحْكَامِ وَجَمِيعِ الشُّؤُونِ، فَمِمَّا اخْتَصَّ اللهُ بِهِ هَذَا الشَّهْرَ أَنْ أَنْزَلَ فِيهِ القُرْآنَ، فَحَقُّهُ أَنْ يُجْتَهَدَ فِيهِ في قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَأَنْ يُوَفِّرَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى الاسْتِكْثَارِ مِنَ القِرَاءَةِ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ القُرْآنَ، ذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ فِيهِ القُرْآنَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ فَرْضِيَّةَ الصِّيَامِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾. ثُمَّ قَالَ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.

فَالصِّيَامُ هُوَ شُكْرٌ لِتِلْكَ المِنَنِ، وَقِيَامٌ بِحَقِّ تِلْكَ النِّعَمِ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى وَاخْتَصَّ بِهِ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا القُرْآنِ الحَكِيمِ.

اسْتَكْثِرُوا مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اسْتَكْثِرُوا مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَتَدَبُّرِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَالاهْتِدَاءِ بِنُورِهِ، فَهَذَا القُرْآنُ يَهْدِي للتي هِيَ أَقْوَمُ.

وَمِنَ المَحْفُوظِ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ القُرْآنَ في رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَفِي العَامِ الذي قُبِضَ فِيهِ خَتَمَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في: بَابِ: كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ القُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي العَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا، فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي العَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.

وَلَكِنِ انْتَبِهْ أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، إِيَّاكَ وَأَنْ يَكُونَ هَمُّكَ في قِرَاءَتِكَ أَنْ تَخْتِمَ القُرْآنَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ؛ لَا تَقِفُ عِنْدَ عِظَاتِهِ، وَلَا تَعْتَبِرُ بِمَا فِيهِ مِنَ العِبَرِ وَلَا تَمْتَثِلُ مَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ.

جَاءَ رَجُلٌ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ مَسْأَلَةً مِنَ العِلْمِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ كَلَامًا، فَأَرَادَ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يُبَيِّنَ تَقَدُّمَهُ وَحِفْظَهُ في القُرْآنِ وَضَبْطَهُ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي لَأَقْرَأُ المُفَصَّلَ في رَكْعَةٍ (المُفَصَّلُ أَيْ مِنْ سُورَةِ الحُجُرَاتِ إلى آخِرِ النَّاسِ، مِنْ سُورَةِ الحُجُرَاتِ أَو مِنْ سُورَةِ ق إلى آخِرِ المُصْحَفِ يَقْرَؤُهُ في رَكْعَةٍ).

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ مُؤَدِّبًا مُعَلِّمًا مُرَبِّيًا: هَذًّا مِثْلَ هَذِّ الشِّعْرِ، أَوْ نَثْرًا مِثْلَ نَثْرِ الدَّقَلِ؟ (الدَّقَلُ: هُوَ التَّمْرُ وَيَابِسُهُ، شَبَّهَ قِرَاءَتَهُ بِهِ، لِتَسَاقُطِ الرُّطَبِ اليَابِسِ مِنَ العِذْقِ) أَيْ تَقْرَؤُهُ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ (أَيْ: تُسْرِعُ إِسْرَاعًا كَإِسْرَاعِ الشِّعْرِ، وَالهَذُّ شِدِّةُ الإِسْرَاعِ وَالإِفْرَاطُ في العَجَلَةِ) إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ في القَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّافِعَ في القِرَاءَةِ لَيْسَ كَثْرَةَ الخَتَمَاتِ وَلَا كَثْرَةَ المَقْرُوءِ مِنَ الكِتَابِ، إِنَّمَا النَّافِعُ هُوَ أَنْ تَكُونَ القِرَاءَةُ مُؤَثِّرَةً، قَالَ سَيِدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ كَمَا في رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ: هَذًّا مِثْلَ هَذِّ الشِّعْرِ أَو نَثْرًا مِثْلَ نَثْرِ الدَّقَلِ؟ إِنَّمَا فَصَّلَ لِتُفَصِّلُوا (أَيْ إِنَّ القُرْآنَ فُصِّلَ وَبُيِّنَ وَجُزِّئَ لِتُفَصِّلُوا في قِرَاءَتِهِ وَتَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَتُحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ).

دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ في طَرِيقِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ، فَلَمَّا رَأَتْهُ وَسَمِعَتْهُ يَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ قَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَهَكَذَا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ؟ وَاللهِ إِنِّي فِيهَا لَمِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ؟ أَنْكَرَتْ عَلَى أَحَدِ طُلَّابِ العِلْمِ هَذِهِ القِرَاءَةَ التي خَفَّ بِهَا لِسَانُهُ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ مَا فِيهَا مِنَ المَعَانِي، وَيَتَدَبَّرْ.

القُرْآنُ العَظِيمُ دَوَاءُ القُلُوبُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَتَغَنَّى بِهِ، وَقَرَأَهُ في خَلَوَاتِهِ وَجَلَوَاتِهِ، وَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ، وَوَقَفَ عِنْدَهَا وَقْفَةَ المُتَدَبِّرِ الصَّادِقِ، وَرَدَّدَهَا وَهُوَ يُفَكِّرُ فِيهَا، وَيُعَالِجُ قَلْبَهُ بِذَلِكَ، وَالقَلْبُ الذي لَا شِفَاءَ لَهُ بِالقُرْآنِ لَا شِفَاءَ لِقَلْبِهِ، وَالذي لَا يَتَّعِظُ بِهِ فَلَنْ يَتَّعِظَ ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾.

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا.

قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا».

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بَشِيرٍ أَبِي طُعْمَةَ مَوْلَى الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَ: كَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يُصَلِّي، فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ.

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ قَالَتْ: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيَّ وَقِنِي عَذَابَ السَّمُومِ.

وَهَذَا سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا جَاءَ في حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ، بَكَى حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مُؤْتَةَ، فَبَكَى أَهْلُهُ حِينَ رَأَوْهُ يَبْكِي، فَقَالَ: وَاللهِ مَا بَكَيْتُ جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلَا صَبَابَةً لَكُمْ، وَلَكِنِّي بَكَيْتُ مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ فَأَيْقَنْتُ أَنِّي وَارِدُهَا، وَلَمْ أَدْرِ أَأَنْجُو مِنْهَا أَمْ لَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَلَامُ اللهِ تعالى صِفَتُهُ، وَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ مِنْ خِلَالِ كَلَامِهِ تَبَارَكَ وتعالى، يَقُولُ سَيِّدُنَا جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: لَقَدْ تَجَلَّى اللهُ تعالى لِخَلْقِهِ بِكَلَامِهِ، وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ.

مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يُرَدِّدُونَ الآيَةَ الوَاحِدَةَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ لِيَتَدَبَّرُوا فِيهَا، وَكُلَّمَا أَعَادُوهَا انْكَشَفَتْ لَهُمْ وُجُوهٌ مِنْ مَعَانِيهَا، وَتَجَلَّتْ لَهُمْ أَلْوَانٌ مِنْ أَنْوَارِهَا، فَهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا رَجَاءً، أَو يَخْشَوْنَ مِنْهَا خَوْفًا، أَو يَسْتَرْحِمُونَ بِهَا وَيَسْتَشْفِعُونَ.

جَاءَ في الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ لِابْنِ المُبَارَكِ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ ـ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَفَلَ مِنْ بَعْثٍ غَزَا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى أَهْلَهُ، فَتَعَشَّى مِنْ عَشَائِهِ، ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى مَسْجِدِهِ، فَقَرَأَ سُورَةً، ثُمَّ أُخْرَى، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَكَانَهُ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ سُورَةٍ افْتَتَحَ الْأُخْرَى، حَتَّى إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ السَّحَرِ شَدَّ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا رَيْحَانَةَ، قَدْ غَزَوْتَ فَغِبْتَ فِي غَزْوَتِكَ، ثُمَّ قَدِمْتَ إِلَيَّ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْكَ حَظٌّ، وَنَصِيبٌ، فَقَالَ: بَلَى، وَاللهِ مَا خَطَرْتِ لِي عَلَى بَالٍ، وَلَوْ ذَكَرْتُكِ لَكَانَ لَكِ عَلَيَّ حَقٌّ.

قَالَتْ: فَمَا الَّذِي يَشْغَلُكَ يَا أَبَا رَيْحَانَةَ؟

قَالَ: لَمْ يَزَلْ يَهْوَى قَلْبِي فِيمَا وَصَفَ اللهُ فِي جَنَّتِهِ مِنْ لِبَاسِهَا، وَأَزْوَاجِهَا، وَنَعِيمِهَا، وَلَذَّاتِهَا حَتَّى سَمِعْتُ الْمُؤَذِّنَ.

وَرَدَّدَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.

وَكَانَ الضَّحَّاكُ إِذَا تَلَا قَوْلَهُ تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾. رَدَّدَهَا إلى السَّحَرِ.

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».

قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ (مِنَ الأَسَفِ وَهُوَ شِدَّةُ الحُزْنِ وَالمُرَادُ أَنَّهُ رَقِيقُ القَلْبِ سَرِيعُ البُكَاءِ) وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعِ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».

قَالَتْ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ.

فَقَالَتْ لَهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ (مِثْلُ صَوَاحِبِهِ في التَّظَاهُرِ وَالاتِّفَاقِ عَلَى مَا يُرِدْنَ مِنْ كَثْرَةِ الإِلْحَاحِ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ) مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».

قَالَتْ: فَأَمَرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ، ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قُمْ مَكَانَكَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأُكَلِّمَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ، أَوِ الْعِشَاءَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ، أَوْ يَقْرَأُ، وَقَدْ خَرَجَ صَوْتُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي.

وَرَضِيَ اللهُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ الذي قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُ: إِنِّي لَحَسَنُ الظَّنِّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِذَلِكَ قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَتَفَهُّمٍ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، وَأَنْفَعُ للقَلْبِ وَأَدْعَى إلى حُصُولِ الإِيمَانِ وَذَوْقِ حَلَاوَةِ القُرْآنِ.

فَالوَاجِبُ عَلَيْنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ أَنْ نَهْتَمَّ بِفَهْمِ القُرْآنِ، بِمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ، بِمَا فِيهِ مِنَ العِظَاتِ وَالعِبَرِ، وَلَا أَسْهَلَ عَلَى الإِنْسَانِ في تَحْصِيلِ هَذَا مِنْ أَنْ يَقْتَنِيَ كِتَابًا يُبَيِّنُ لَهُ مَعَانِيَ القُرْآنِ، وَيُجَلِّيَ لَهُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ شَهْرُ القُرْآنِ، إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ قِرَاءَةً وَفَهْمًا فُتِحَ لَهُ فِيهِ مِنَ الخَيْرِ مَا لَا يَجِدُهُ في غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا وَفَّرَ نَفْسَهُ عَلَى الشَّيْءِ حَصَّلَ مِنْهُ مَا لَا يُحَصِّلُهُ في غَيْرِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا للصِّيَامِ حَقَّ الصِّيَامِ، وَللقِيَامِ حَقَّ القِيَامِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

السبت: 8/ رمضان /1443هـ، الموافق: 9/نيسان / 2022م