14ـ توبة من لم يدع سيئة إلا عملها

14ـ توبة من لم يدع سيئة إلا عملها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اللهُ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، الذي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ المُحْسِنِينَ الرَّجَاعِينَ التَّوَّابِينَ، الذينَ إِذَا أَذْنَبُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا ذُكِّرُوا ذَكَرُوا، فَلَيْسَتِ المُشْكِلَةُ في الوُقُوعِ في الذَّنْبِ، لَكِنَّ المُشْكِلَةَ الكُبْرَى، وَالدَّاهِيَةَ العُظْمَى في الإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنْ يَأْلَفَ العَبْدُ الذَّنْبَ، وَيَتَسَاهَلَ بِخَطَرِهِ، وَلَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِتَوْبَةٍ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

نَعَمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ رَؤُوفٌ بِعِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَمَغْفِرَتُهُ أَعْجَلُ مِنْ عُقُوبَتِهِ.

لَمَّا انْتَهَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَرْبِ هَوَازِنَ، أُتِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ المَعْرَكَةِ بِأَطْفَالِ الكُفَّارِ وَنِسَائِهِمْ، وَجُمِعُوا في مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَالْتَفَتَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، أُمٌّ ثَكْلَى، تَجُرُّ خُطَاهَا، تَبْحَثُ عَنْ وَلَدِهَا، وَفِلْذَةِ كَبِدِهَا، اضْطَرَبَ أَمْرُهَا، وَفَقَدَتْ صَوَابَهَا، وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا، تَطُوفُ عَلَى الأَطْفَالِ الرُّضَّعِ، تَنْظُرُ في وُجُوهِهِمْ، وَهِيَ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ طِفْلُهَا بَيْنَ يَدَيْهَا.

فَبَيْنَمَا هِيَ كَذلِكَ إِذْ وَجَدَتْ وَلَدَهَا، انْكَبَّتْ عَلَيْهِ، وَضَمَّتْهُ إلى صَدْرِهَا، وَأَلْقَمَتْهُ ثَدْيَهَا؛ هُنَا نَظَرَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، ثُمَّ الْتَفَتَ إلى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟».

قُلْنَا: لَا وَاللهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

نَعَمْ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَمِنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ دَعَانَا فَرْدًا فَرْدًا إلى التَّوْبَةِ، وَعَرَضَ التَّوْبَةَ عَلَى عَبْدِهِ مَهْمَا أَشْرَكَ، وَمَهْمَا طَغَى وَتَجَبَّرَ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾. لَقَدْ قِيلَتْ هَذِهِ الكَلِمَاتُ لِمَنْ قَالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾. وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾. وَقَالَ: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾. وَقَالَ: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾؟

فَهَلْ مِنْ تَائِبٍ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟

تَوْبَةُ مَنْ لَمْ يَدَعْ سَيِّئَةً إِلَّا عَمِلَهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُسْرِعْ جَمِيعًا إلى التَّوْبَةِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَهْمَا عَظُمَتِ الذُّنُوبُ، رَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: جَاءَ شَابٌّ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَدَعْ سَيِّئَةً إِلَّا عَمِلَهَا، وَلَا خَطِيئَةً إِلَّا رَكِبَهَا، وَلَا أَشْرَفَ لَهُ سَهْمٌ فَمَا فَوْقَهُ إِلَّا اقْتَطَعَهُ بِيَمِينِهِ، وَمَنْ لَوْ قُسِّمَتْ خَطَايَاهُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَغَمَرَتْهُمْ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ؟» أَوْ: «أَنْتَ مُسْلِمٌ؟».

قَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

قَالَ: «اذْهَبْ، فَقَدْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟

قَالَ: «وَغَدَرَاتُكَ وَفَجَرَاتُكَ». ثَلَاثًا.

فَوَلَّى الشَّابُّ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ؛ فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُكَبِّرُ، حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، أَوْ خَفِيَ عَنِّي.

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي طَوِيلٍ شَطَبٍ الْمَمْدُودِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ (يَعْنِي: لَا يَتْرُكُ حَاجَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَو كَانَ قَاطِعًا لِطَرِيقِ الحُجَّاجِ ذَهَابًا وَإِيَابًا).

قَالَ: «فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟».

قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.

قَالَ: «نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ».

قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَعْرِفْ عِزَّةَ اللهَ تعالى في قَضَائِهِ، وَبِرَّهُ في سِتْرِهِ، وَحِلْمَهُ في إِمْهَالِنَا، وَفَضْلَهُ في مَغْفِرَتِهِ، فَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَفْضَالٌ وَأَفْضَالٌ.

أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يَسْتُرُنَا حَالَ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ، وَلَو شَاءَ لَفَضَحَنَا عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ، فَكَمْ مِنْ عَاصٍ مِنْ أَمْثَالِنَا فَضَحَهُ اللهُ تعالى وَسَتَرَنَا نَحْنُ؟

ثَانِيهَا: حِلْمُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا في إِمْهَالِنَا، وَلَو شَاءَ لَعَجَّلَ العُقُوبَةَ.

ثَالِثُهَا: وَهُوَ أَعْظَمُهَا، فَرَحُ اللهِ تعالى بِتَوْبَتِنَا، فَرَحَ إِحْسَانٍ وَبِرٍّ وَلُطْفٍ، لَا فَرَحَ مُحْتَاجٍ إلى تَوْبَةِ عَبْدِهِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».

فَيَفْرَحُ اللهُ تعالى فَرَحَ إِحْسَانٍ وَبِرٍّ، لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنَّا، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.

وَيُمَثِّلُ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا الفَرَحَ في حَدِيثٍ رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ».

وَرَابِعُهَا: تَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ مِنْ قِبَلِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُبَادِرْ إلى التَّوْبَةِ، وَلَا نَنْظُرْ إلى صِغَرِ الذَّنْبِ، وَلَكِنْ لِنَنْظُرْ إلى عَظَمَةِ الرَّبِّ الذي نَعْصِيهِ، وَلْنُؤَدِّ الحُقُوقَ التي عَلَيْنَا قَبْلَ مَوْتِنَا، وَإِلَّا فَالعَبْدُ المُخَالِفُ سَوْفَ يَنْدَمُ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ».

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ».

وَرَوَى الإِمَامُ الحَاكِمُ قَالَ عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ ـ أَوْ قَالَ: النَّاسَ ـ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا».

قَالَ: قُلْنَا: مَا بُهْمًا؟

قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَعِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ».

قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ ذَا، وَإِنَّمَا نَأْتِي اللهَ غُرْلًا بُهْمًا؟

قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ».

قَالَ: وَتَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾.

وَفي الخِتَامِ: رَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عُبَادَةَ الْوَفَاةُ، قَالَ: أَخْرِجُوا فِرَاشِي إِلَى الصَّحْنِ ـ يَعْنِي: الدَّارَ ـ.

ثُمَّ قَالَ: اجْمَعُوا إِلَيَّ مَوَالِيَّ، وَخَدَمِي، وَجِيرَانِي، وَمَنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ.

فَجَمَعُوا لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ يَوْمِي هَذَا لَا أُرَاهُ إِلَّا آخِرَ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَدْ فَرَطَ مِنِّي إِلَيْكُمْ بِيَدِي أَوْ بِلِسَانِي شَيْءٌ، وَهُوَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ الْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأُحَرِّجُ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا اقْتَصَّ مِنِّي قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ نَفْسِي.

قَالَ: فَقَالُوا: بَلْ كُنْتَ وَالِدًا، وَكُنْتَ مُؤَدِّبًا.

قَالَ: وَمَا قَالَ لِخَادِمٍ سُوءًا قَطُّ.

فَقَالَ: أَغَفَرْتُمْ لِي مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ.

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.

فَقَالَ: أَمَّا لِي فَاحْفَظُوا وَصِيَّتِي، أُحَرِّجُ عَلَى إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَبْكِي، فَإِذَا أُخْرِجَتْ نَفْسِي فَتَوَضَؤُوا وَأَحْسِنُوا الْوُضُوءَ، ثُمَّ لِيَدْخُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَسْجِدًا فَيُصَلِّي ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ لِعُبَادَةَ وَلِنَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾. ثُمَّ أَسْرِعُوا بِي إِلَى حُفْرَتِي، وَلَا تَتْبَعُنِي نَارٌ، وَلَا تَضَعُوا تَحْتِي أُرْجُوانًا (الأُرْجُوَانُ صَبْغٌ أَحْمَرُ شَدِيدُ الحُمْرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الأُرْجُوَانَ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ بِالفَارِسِيَّةِ أُرْغُوَانٌ؛ وَهُوَ شَجَرٌ لَهُ نَوَرٌ أَحْمَرٌ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ، وَكُلُّ لَوْنٍ يُشْبِهُهُ فَهُوَ أُرْجُوَانٌ).

اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِفَضْلِكَ لَا بِعَدْلِكَ، وَتَحَمَّلْ عَنَّا التَّبِعَاتِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 13/ رمضان /1443هـ، الموافق: 14/نيسان / 2022م