15ـ الأحنف بن قيس والقرآن

15ـ الأحنف بن قيس والقرآن

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَدِيثُنَا مَا زَالَ عَنِ القُرْآنِ العَظِيمِ الذي هُوَ مَنْبَعُ الهِدَايَةِ، وَمَعْلَمُ النُّورِ، الذي بِهِ حَيَاةُ القُلُوبِ، وَسَكِينَةُ النُّفُوسِ، وَرَشَدُ العُقُولِ، وَاسْتِقَامَةُ الجَوَارِحِ، وَطِيبُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَنَجَاةُ الحَيَاةِ الآخِرَةِ؛ القُرْآنُ العَظِيمُ حِكْمَتُهُ بَالِغَةٌ، وَشَرِيعَتُهُ نَافِعَةٌ.

وَإِنَّ سِرَّ نُكُوصِنَا وَضَعْفِنَا، وَتَكَالُبِ الأَعْدَاءِ عَلَيْنَا، مَعَ حَيَاةِ الشَّقَاءِ التي تُعَانِيهَا الأُمَّةُ هُوَ: أَنَّ صِلَتَنَا مَعَ القُرْآنِ الكَرِيم فِيهَا نَقْصٌ كَبِيرٌ، وَخَلَلٌ عظِيمٌ، وَفَرَحُنَا رُبَّمَا بِتِلَاوَتِهِ فَقَطْ دُونَ فَهْمِهِ وَدُونَ العَمَلِ بِأَحْكَامِهِ، قَالَ تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. فَمَا نَزَلَ القُرْآنُ للتِّلَاوَةِ فَقَطْ مَعَ الإِعْرَاضِ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ، وَرُبَّمَا لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى يَكُونُ سَبَبًا لِسَوْقِهِ إلى نَارِ جَهَنَّمَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾؟

وَمِنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾؟

وَمِنْ قَوْلِهِ وتعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾؟

رَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ: كَيْفَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ؟

قَالَتْ: تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ كَمَا نَعَتَهُمُ اللهُ.

قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعَ أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.

قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَهُوَ مِنْ أَرَقِّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ مَوَاعِظَ، كَانَتْ مَوَاعِظُ قَلْبِهِ تَفِيضُ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِذَا بِهَا تَلِجُ إلى القُلُوبِ، وَتُؤَثِّرُ في النُّفُوسِ ـ يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا عُوَيْمِرُ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا جَهِلْتَ؟ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي: مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الغَرَضُ الأَسَاسِيُّ مِنْ إِنْزَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ هُوَ التَّدَبُّرُ وَالتَّذَكُّرُ، لَا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ عَلَى عِظَمِ أَجْرِهَا، يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ قَرَأَهُ عَبِيدٌ وَصِبْيَانٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ أَوَّلِهِ، وَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ وَمَا تَدَبُّرُ آيَاتِهِ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ وَالعَمَلِ بِعِلْمِهِ، أَمَا وَاللهِ مَا هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: لَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَمَا أَسْقَطْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَقَدْ وَاللهِ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ، مَا يُرَى لَهُ الْقُرْآنُ فِي خُلُقٍ، وَلَا عَمَلٍ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: إِنِّي لَأَقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ، وَاللهِ مَا هَؤُلَاءِ بِالْقُرَّاءِ، وَلَا الْعُلَمَاءِ، وَلَا الْحُكَمَاءِ، وَلَا الْوَرَعَةِ، مَتَى كَانَتِ الْقُرَّاءُ مِثْلَ هَذَا؟ لَا كَثَّرَ اللهُ فِي النَّاسِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ.

الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَالقُرْآنُ العَظِيمُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ذَكَرَ الحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرُوزِيُّ: عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. فَانْتَبَهَ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْمُصْحَفِ، لِأَلْتَمِسَ ذِكْرِيَ الْيَوْمَ حَتَّى أَعْلَمَ مَعَ مَنْ أَنَا وَمَنْ أُشْبِهُ، فَنَشَرَ الْمُصْحَفَ فَمَرَّ بِقَوْمٍ ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾. ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَسْتُ أَعْرِفُ نَفْسِي هَهُنَا.

ثُمَّ أَخَذَ فِي السَّبِيلِ الْآخَرِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتَنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾. وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُقَالُ لَهُمْ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾. قَالَ فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ.

قَالَ: فَمَا زَالَ يُقَلِّبُ الْوَرَقَ وَيَلْتَمِسُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى نَرَى مَنْ نَحْنُ مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ؟ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ التِّلَاوَةِ، وَلَا نِعْمَةَ الفَهْمِ، وَلَا نِعْمَةَ العَمَلِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 14/ رمضان /1443هـ، الموافق: 15/نيسان / 2022م