16ـ غزوة بدر كانت فرقانًا بين عهدين

16ـ غزوة بدر كانت فرقانًا بين عهدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى التي ابْتَدَأَتْ وانْتَهَتْ بِتَدْبِيرِ اللهِ تعالى وتَوْجِيهِهِ ومَدَدِهِ فُرْقَانًا بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، فُرْقَانًا بَيْنَ الحَقِّ الذي عَلَيْهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ، وقَامَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ النَّاسِ المُتَمَثِّلَةُ في تَفَرُّدِ اللهِ تعالى بِالأُلُوهِيَّةِ والسُّلْطَانِ والتَّدْبِيرِ والتَّقْدِيرِ، وفي عُبُودِيَّةِ الكَوْنِ كُلِّهِ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ لِهَذَا الإِلَهِ الفَرْدِ، وَبَيْنَ البَاطِلِ الزَّائِفِ الذي كَانَ يَعُمُّ وَجْهَ الأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، حَيْثُ تُقِيمُ في الأَرْضِ الطَّوَاغِيتُ التي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تعالى.

لَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فُرْقَانًا بَيْنَ عَهْدَيْنِ، عَهْدِ الصَّبْرِ والمُصَابَرَةِ، وعَهْدِ القُوَّةِ والحَرَكِةِ.

الطُّرُقُ التي اسْتَخْدَمَتْهَا قُرَيْشٌ في التَّعَامُلِ مَعَ المُسْلِمِينَ في المَدِينَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اخْتَارَتْ قُرَيْشٌ طَرِيقَ العَلَاقَاتِ الدِّبْلُومَاسِيَّةِ وَالمُرَاسَلَاتِ وَالمُفَاوَضَاتِ مَعَ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ مُفَاوَضَاتٍ تَحْمِلُ تَهْدِيدًا خَطِيرًا للمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، لَمْ تَكُنْ في صُورَةِ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؛ بَلْ كَانَتْ في صُورَةِ تَهْدِيدٍ مُبَاشِرٍ مِنَ القُوَّةِ الأُولَى في الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ لِقُوَّةِ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ.

رَاسَلَتْ قُرَيْشٌ زَعِيمَ المُشْرِكِينَ في المَدِينَةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، وَاسْتَغَلَّتْ رَغْبَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ في المُلْكِ وَالسِّيَادَةِ، وَكَرَاهِيَتَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَغَلَّتْ طَبِيعَتَهُ الخَائِنَةَ التي لُا تَقْدِرُ عَلَى المُوَاجَهَةِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَإِلَى مُشْرِكِي المَدِينَةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ رِسَالَةً، ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ، تَقُولُ قُرَيْشٌ لِعَبْدِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ في هَذِهِ الرِّسَالَةِ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ، أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ، وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ.

تَهْدِيدٌ مُبَاشِرٌ لِمُشْرِكِي الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَو بِقَتْلِهِ، وَجَاءَ التَّهْدِيدُ مُوَافِقًا لِهَوَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ؛ وَلِذَلِكَ فَقَدْ أَخَذَ قَرَارًا في مُنْتَهَى الخُطُورَةِ، إِذْ جَمَعَ المُشْرِكِينَ مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ وَقَرَّرَ أَنْ يُقَاتِلَ المُسْلِمِينَ مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وَهَكَذَا تَنَاسَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سلولَ تَمَامًا عَدَاءَهُ القَدِيمَ مَعَ الأَوْسِ، تَنَاسَى الثَّارَاتِ العَمِيقَةِ وَالدِّمَاءَ التي سَالَتْ بَيْنَ القَبِيلَتَيْنِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَعُدْ يَذْكَرُ إِلَّا الحَرْبَ العَقَائِدِيَّةَ الآنَ، سَيُقَاتِلُ المُسْلِمِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الخَزْرَجِ، وَسَيَضَعُ يَدَهُ في يَدِ المُشْرِكِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الأَوْسِ، فَقَدْ يَظُنُّ البَعْضُ أَنَّ هَذَا غَرِيبٌ، لَكِنَّهَا حَقِيقَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ وَسُنَّةٌ ثَابِتَةٌ، دَائِمًا يَجْتَمِعُ أَهْلُ البَاطِلِ عَلَى اخْتِلَافِ تَصَوُّرَاتِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَطُرُقِهِمْ في التَّفْكِيرِ لِحَرْبِ المُسْلِمِينَ.

وَهَذَا الأَمْرُ مُلَاحَظٌ مِنْ عَهْدِ الفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، فُتُوحِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَفي الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالتَّتَارِ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، إلى يَوْمِنَا هَذَا، كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾.

عِنْدَمَا كَتَبَتْ قُرَيْشٌ لِعَبْدِ اللهِ تُحَرِّضُهُ عَلَى إِخْرَاجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المَدِينَةِ، جَمَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ المُشْرِكِينَ مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ لِحَرْبِ المُؤْمِنِينَ مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وَتَجَمَّعَ كَذَلِكَ المُسْلِمُونَ لِحَرْبِ المُشْرِكِينَ، بَوَادِرُ حَرْبٍ أَهْلِيَّةٍ خَطِيرَةٍ، وَفِتْنَةٍ طَائِفِيَّةٍ دَاخِلِيَّةٍ سَتَنْشُبُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَطَائِفَةٍ أُخْرَى عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ، تَعِيشُ مَعَهُمْ في دَاخِلِ البَلَدِ الوَاحِدِ.

حِينَهَا جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَاوَلَ قَدْرَ المُسْتَطَاعِ أَنْ يُوقِفَ الصِّرَاعَ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ، وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِالفِعْلِ قَبْلَ القِتَالِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ هُنَا أَنْ يُذَكِّرَ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالعَقِيدَةِ وَالمَبَادِئِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُشْرِكِينَ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قَالَ اللهُ وَقَالَ الرَّسُولُ، فَأَخَذَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ عَلَى وَتَرَيْنِ في مُنْتَهَى الأَهَمِّيَّةِ، وَهُمَا وَتَرَانِ يُمَثِّلَانِ عَامِلًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ.

الوَتَرُ الأَوَّلُ: وَتَرُ التَّحَدِّي وَإِثَارَةِ النَّخْوَةِ وَالعِزَّةِ وَالإِبَاءِ، وَكُلُّ هَذِهِ مَعَانٍ يَفْتَخِرُ بِهَا العَرَبُ كُلُّهُمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَو مُشْرِكِينَ، قَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ».

وَهَكَذَا حَرَّكَ فِيهِمْ عُنْصُرَ التَّحَدِّي لِقُرَيْشٍ، وَأَخَذَ يَلْفِتُ الأَنْظَارِ إلى مَكِيدَةِ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُمْ أَنْتُمُ الذينَ تَخْدَعُكُمْ قُرَيْشٌ بِمَكِيدَةٍ مَكْشُوفَةٍ كَهَذِهِ.

الوَتَرُ الثَّانِي: كَانَ في مُنْتَهَى الأَهَمِّيَّةِ أَيْضًا: وَتَرُ الرَّحِمِ وَالقَبِيلَةِ.

قَالَ لَهُمْ: «تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ». هَلْ سَيَقْتُلُ الأَوْسِيُّ أَوْسِيًّا؟ هَلْ سَيَقْتُلُ الخَزْرَجِيُّ خَزْرَجِيًّا؟ هَلْ سَيَقْتُلُ اليَثْرِبِيُّ يَثْرِبِيًّا مِنْ نَفْسِ الوَطَنِ، وَيَعِيشُ نَفْسَ الظُّرُوفِ وَيَتَعَرَّضُ لِنَفْسِ المَخَاطِرِ؟ وَهَكَذَا ذَكَّرَهُمْ جَمِيعًا بِالمُوَاطَنَةِ لِيَثْرِبَ.

فَلَمَّا سَمِعَ القَوْمُ هَذَا الكَلَامَ تَفَرَّقُوا جَمِيعًا مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، فَهَذِهِ حِكْمَةٌ نَبَوِيَّةٌ بَالِغَةٌ أَنْهَتِ الفِتْنَةَ الطَّائِفِيَّةَ في دَاخِلِ البَلَدِ الوَاحِدِ تَمَامًا، وَأَشَدُّ النَّاسِ فَرَحًا بِهَذِهِ الفِتْنَةِ الطَّائِفِيَّةِ هُمْ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ، فَطَرَفٌ يُنْهِي طَرَفًا آخَرَ، وَطَرَفٌ يَقْضِي عَلَى طَرَفٍ آخَرَ، وَهَكَذَا تُكْسَرُ شَوْكَةُ الدَّوْلَةِ دُونَ عَنَاءٍ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَهَذَا الذي كَانَتْ تُرِيدُهُ قُرَيْشٌ، فَالقَائِدُ الحَكِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ ذَلِكَ بِاقْتِدَارٍ، وَعَلَى كُلِّ المُخْلِصِينَ لِهَذَا الدِّينِ أَنْ يَسْتَوْعِبُوا هَذَا الدَّرْسَ تَمَامًا، فَمَا أَكْثَرَ مَا تُثَارُ الفِتَنُ الطَّائِفِيَّةُ في البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَلَا تَجُرُّ عَلَى البَلَدِ إِلَّا الوَيْلَاتِ وَالدَّمَارَ، بَلْ مَا أَكْثَرَ مَا تُثَارُ الفِتَنُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمِينَ، جَمَاعَةٌ تُحَارِبُ جَمَاعَةً، أَو سُلْطَةٌ تُحَارِبُ جَمَاعَةً، وَالجَمِيعُ في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ في فِلَسْطِينَ وَالعِرَاقِ وَالأُرْدُنِ وَمِصْرَ وَلِيبيَا وَالجَزَائِرِ وَفِي غَيْرِهَا وَغَيْرِهَا.

فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعُلِّمُنَا كَيْفَ نَتَجَنَّبُ الصِّرَاعَ الدَّاخِلِيَّ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمِ الأُمَّةُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ لِقِرَاءَةِ سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أَزَمَاتِهَا.

إِنَّ شَخْصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تُعَدُّ نِبْرَاسًا لِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَهْتَدِيَ إلى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى تَعْلِيمِ أَبْنَائِهِمْ سِيرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنَّا نُعَلِّمُ أَوْلَادَنَا سِيرَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَغَازِيَهُ، كَمَا نُعَلِّمُهُمُ القُرْآنَ.

لِهَذَا تَحَتَّمَ عَلَى الأُمَّةِ مَعْرِفَةُ حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِهَا إلى آخِرِهَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 17/ رمضان /1443هـ، الموافق: 18/نيسان / 2022م