811ـ خطبة الجمعة: اسمع أيها المتصدق

811ـ خطبة الجمعة: اسمع أيها المتصدق

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ وَالجُودُ وَالإِحْسَانُ وَالبِرُّ وَصِلَةُ الأَرْحَامِ تَطِيبُ في كُلِّ زَمَانٍ، فَهِيَ تَزْكُو وَتَتَضَاعَفُ حَسَنَاتُهَا في شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ الجُودِ وَالإِحْسَانِ.

وَمَا دُمْنَا في شَهْرِ رَمَضَانَ وَفي عَشْرِه الأَخِيرِ فَلْنَتَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.

وَقَوْلَهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وَقَوْلَهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾.

فَهَلْ مِنْ سَامِعٍ لِنِدَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؟

هَلُمُّوا يَا عِبَادَ اللهِ للإِنْفَاقِ في هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ، وَأَبْشِرُوا بِدُعَاءِ المَلَكِ لَكُمْ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».

كُنْ مُنْفِقًا، وَلَا تَكُنْ مُمْسِكًا حَتَّى لَا تَنْدَمَ ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.

اسْمَعْ أَيُّهَا المُتَصَدِّقُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أُخَاطِبُ نَفْسِي، وَكُلَّ مُتَصَدِّقٍ فِيكُمْ: يَا أَيُّهَا المُتَصَدِّقُ، حَتَّى تَنَالَ وَعْدَ اللهِ تعالى الذي لَا يُخْلَفُ في الصَّدَقَةِ، عَلَيْكَ بِالأُمُورِ الآتِيَةِ:

أولًا: حَرِّرِ النِّيَّةَ في الصَّدَقَةِ، وَلْتَكُنْ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. وَاسْمَعِ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي يَقُولُ فِيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَلْيَكُنْ عَطَاؤُكَ للهِ تعالى، لَا لِيُقَالَ عَنْكَ كَرِيمٌ، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً.

ثانيًا: تَخَيَّرِ الحَلَالَ في الصَّدَقَةِ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الحَرَامِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا».

ثالثًا: تَخَيَّرِ الأَجْوَدَ في صَدَقَتِكَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ».

فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

رابعًا: أَسِرَّ في صَدَقَتِكَ، لَا أَقُولُ عَنْ زَوْجَتِكَ وَأَوْلَادِكَ، وَلَا عَنْ وَالِدَيْكَ وَأَحْبَابِكَ، وَلَا عَنْ شَيْخِكَ وَإِخْوَانِكَ، بَلْ عَنْ شِمَالِكَ حَتَّى لَا تَعْلَمَ مَا أَنْفَقَتْ يَمينُكَ، الإِسْرَارَ الإِسْرَارَ في الصَّدَقَةِ، ابْتَعِدْ عَنِ التَّلْوِيحِ فَضْلًا عَنِ التَّصْرِيحِ، لِتَنَالَ ذَاكَ المَقَامَ الشَّرِيفَ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».

خامسًا: احْذَرِ المَنَّ بِالعَطِيَّةِ، أَو الأَذَى لِمَنْ تُعْطِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ صَدَقَتَكَ، كَمَا يُبْطِلُهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾.

احْذَرِ المَنَّ وَالأَذَى حَتَّى لَا يُعْرِضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: اسْتَغِلُّوا أَنْفَاسَ أَعْمَارِكُمْ بِالصَّدَقَاتِ وَالقُرُبَاتِ، وَاللهِ هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

أَنْفِقُوا، أَنْفِقُوا، أَنْفِقُوا، فَاللهُ تعالى يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾.

اللَّهُمَّ أَخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِنَا، وَحَبِّبْ إِلَيْنَا الإِنْفَاقَ مَعَ الإِخْلَاصِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 21/رمضان /1443هـ، الموافق: 22/ نيسان / 2022م