66ـ توبة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

66ـ توبة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَمْدُ للهِ الذي يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِينَ وَيَمْحُو بِفَضْلِهِ وَحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ إِسَاءَةَ المُذْنِبِينَ، الحَمْدُ للهِ الذي ذَكَرَ لَنَا آيَةً في كِتَابِهِ العَظِيمِ مَا وَقَفَ أَمَامَهَا مُذْنِبٌ إِلَّا رَجَعَ إلى رَبِّهِ وَتَابَ، وَلَا فَكَّرَ فِيهَا مُسِيءٌ إِلَّا أَنَابَ، آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ عَظِيمَةً جَلِيلَةً كَرِيمَةً مِنْ كَلَامِ اللهِ تعالى، فِيهَا مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ مِنْ مَوَاعِظِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَهْدِي بِهَا اللهُ تعالى جَمِيعَ العُقَلَاءِ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

فَالسَّعِيدُ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ التَّائِبِينَ، وَرَجَعَ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِهِ.

تَوْبَةُ سَيِّدِنَا حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاه كَانَتْ بَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، عِنْدَمَا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ الصُّلْحَ الذي أَبْرَمَتْهُ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحُدَيْبِيَةِ، عَزَمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاقَبَتِهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّجَهُّزِ للغَزْوِ، وَأَخْفَى وِجْهَتَهُ حَتَّى يُفَاجِئَ قُرَيْشًا، فَيَتَحَقَّقَ لَهُ النَّصْرُ بِأَقَلِّ الخَسَائِرِ، وَدَعَا قَائِلًا: «اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَيْهِمْ خَبَرَنَا حَتَّى نَأْخُذَهُمْ بَغْتَةً» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً (المَرْأَةُ في الهَوْدَجِ، وَقِيلَ المَرْأَةُ عَامَّةً) وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا».

فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى (تَبَاعَدَ وَتَجَارَى) بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الكِتَابَ.

فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ.

فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ.

فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا (هُوَ الشَّعْرُ المَضْفُورُ).

فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا، وَلَا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلَامِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ».

قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ.

قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الغَنَوِيَّ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى المُشْرِكِينَ».

فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: الكِتَابَ.

فَقَالَتْ: مَا مَعَنَا كِتَابٌ.

فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا.

فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ.

فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ أَهْوَتْ إلى حُجْزَتِهَا (مَعْقِدِ إِزَارِهَا) وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ (شَادَّةٌ كِسَاءَهَا عَلَى وَسَطِهَا) فَأَخْرَجَتْهُ.

فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟».

قَالَ حَاطِبٌ: وَاللهِ مَا بِي أَنْ لَا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ، وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا».

فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ.

فَقَالَ: «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟»

فَقَالَ: «لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».

فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَنْزَلَ اللهُ السُّورَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ هَذِهِ القِصَّةِ الحِلْمَ وَالأَنَاةَ في التَّعَامُلِ مَعَ المُذْنِبِينَ، مَعَ الخَطَّائِينَ، فَقَدْ سَأَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَاطِبًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ السَّبَبِ الذي حَمَلَهُ عَلَى فِعْلِهِ ذَاكَ، وَهَذَا السُّؤَالُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ المُوَالَاةِ لِغَيْرِ المُؤْمِنِينَ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ للسُّؤَالِ فَائِدَةٌ.

فَسَيِّدُنَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الدِّينِ، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِيمَانِهِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيَحْمِيَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ في مَكَّةَ، وَقَدْ صَدَّقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هَذَا، وَنَفَى عَنْهُ صِفَةَ النِّفَاقِ الَّتِي اتُّهِمَ بِهَا، وَنَهَى أَصْحَابَهُ أَنْ يَعُودُوا لِوَصْفِهِ بِالنِّفَاقِ أَو خِيَانَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ، وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا».

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المُوَالَاةَ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلَامِ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ حَمَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِ الكُفْرِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الجَصَّاصُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ لَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ، وَيَسْتَبِيحُ إِظْهَارَ كَلِمَةَ الكُفْرِ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ إِذَا صَدَرَ عَنْهُ الكِتَابُ الذي كَتَبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الإِكْفَارَ، وَلَو كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الإِكْفَارَ لَاسْتَتَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَتِبْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ عُلِمَ أَنَّهُ مَا كَانَ مُرْتَدًّا؛ وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.

وَنَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ وُجُوبَ الرُّجُوعِ إلى الحَقِّ، وَالتَّرَاجُعِ عَنِ الحُكْمِ إِذَا بَانَ خَطَؤُهُ، فَهَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدِ اتَّهَمَ حَاطِبًا بِالنِّفَاقِ، وَبَيَّنَ وِجْهَةَ نَظَرِهِ وَسَبَبَ اتِّهَامِهِ، لَكِنْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ تَرَاجَعَ وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

وَنَتَعَلَّمُ جَوَازَ العَفْوِ عَنْ زَلَّةِ ذَوِي الهَيْئَةِ، وَعَنِ العَاصِي، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِالمَعَاصِي، فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْ حَاطِبٍ لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَلَهُ سَابِقَةٌ في الهِجْرَةِ وَالجِهَادِ، بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ عَظِيمٌ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قَالَ الطَّبَرِيُّ: في حَدِيثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ الإِمَامَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السَّتْرِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَاتَبَ عَدُوًّا مِنَ المُشْرِكِينَ يُنْذِرُهُمْ بِبَعْضِ مَا أَسَرَّهُ المُسْلِمُونَ فِيهِمْ مِنْ عَزْمٍ، وَلَمْ يَكُنِ الكَاتِبُ مَعْرُوفًا بِالسَّفَهِ وَالغِشِّ للإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ هَفْوَةً وَزَلَّةً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَخَوَاتٌ، فَجَائِزٌ العَفْوُ عَنْهُ، كَمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ بِحَاطِبٍ مِنْ عَفْوِهِ عَنْ جُرْمِهِ بَعْدَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِهِ؛ وَهَذَا نَظِيرُ الخَبَرِ الذى رَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَنَتَعَلَّمُ أَنَّ المُؤْمِنَ وَلَو بَلَغ بِالصَّلَاحِ أَنْ يُقْطَعَ لَهُ بِالجَنَّةِ: لَا يُعْصَمُ مِنَ الوُقُوعِ في الذَّنْبِ، لِأَنَّ حَاطِبًا دَخَلَ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُمُ الجَنَّةَ، وَوَقَعَ مِنْهُ مَا وَقَعَ.

وَفي الحَدِيثِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَفَّرَ المُسْلِمَ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ، وَعَلَى مَنْ جَزَمَ بِتَخْلِيدِهِ في النَّارِ، وَعَلَى مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُعَذَّبَ.

وَهَذِهِ مِنْ أَهَمِّ المَسَائِلِ التي يَقَعُ فِيهَا الغُلُوَّ، فَمِنَ الغُلَاةِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالكَبَائِرِ، وَيَرَى خُلُودَ أَصْحَابِهَا في النَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ العَاصِيَ لَا بُدَّ أَنْ يُعَاقَبَ في الآخِرَةِ.

وَنَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الخَطَأُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ، بَلْ يَعْتَرِفُ وَيَعْتَذِرُ لِئَلَّا َيْجمَعَ بَيْنَ ذَنْبَيْنِ، وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ مُسَارَعَةِ حَاطِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الاعْتِرَافِ بِذَنْبِهِ دُونَ إِنْكَارٍ.

وَمَنِ ارْتَكَبَ جُرْمًا ثُمَّ تَابَ مِنْهُ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَيِّرَهُ بِهِ، وَلَا أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ أَوِ الذَّمِّ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَنِ اتُّهِمَ بِجُرْمٍ وَبُرِّئَ مِنْهُ.

يُسْتَفَادُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا».

فَقَدْ عَفَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَاطِبٍ لَمَّا عَلِمَ صِدْقَهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَلَّا يَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَعَيَّرَ تَائِبًا بِذَنْبٍ، أَو اتَّهَمَ بَرِيئًا قَدْ حُكِمَ بِبَرَاءَتِهِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ بِبُهْتَانٍ عَظِيمٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ هَذِهِ الحَادِثَةِ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَدِّدَ ثَلَاثَةَ مَرَاحِلَ للمُعَالَجَةِ العَادِلَةِ للخَطَأِ، مَهْمَا كَانَتْ ضَخَامَتُهُ.

الأُولَى: مَرْحَلَةُ التَّثَبُّتِ مِنْ وُقُوعِ الخَطَأِ.

الثَّانِيَةُ: مَرْحَلَةُ التَّثَبُّتِ مِنَ الأَسْبَابِ التي دَفَعَتْ إلى ارْتِكَابِ الخَطَأِ.

الثَّالِثَةُ: مَرْحَلَةُ جَمْعِ الحَسَنَاتِ وَالأَعْمَالِ الخَيِّرَةِ لِمُرْتَكِبِ الخَطَأِ وَحَشْدِهَا إلى جَانِبِ خَطَئِهِ، فَقَدْ يَنْغَمِرُ هَذَا الخَطَأُ، وَتِلْكَ السَّيِّئَةُ في بَحْرِ حَسَنَاتِهِ.

وَأَخِيرًا: يَجِبُ أَنْ نُفَكِّرَ في آخِرَتِنَا أَكْثَرَ مِمَّا نُفَكِّرُ في دُنْيَانَا، حَتَّى لَا نَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 24/رمضان /1443هـ، الموافق: 25/نيسان / 2022م