26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.

في غَزْوَةِ بَدْرٍ حَصَلَ أَثْنَاءَ تَسْوِيَةِ صُفُوفِ المُقَاتِلِينَ مَوْقِفٌ، هَذَا المَوْقِفُ يُعَرِّفُنَا عَلَى صِفَةٍ مُهِمَّةٍ مِنْ صِفَاتِ الجَيْشِ المَنْصُورِ، أَلَا وَهِيَ تَوَاضُعُ قَائِدِ الجَيْشِ مَعَ جُنْدِهِ، وَانْصِهَارِهِ فِيهِمْ، فَمَا هُوَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.

اسْتَوِ يَا سَوَادُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَدَّلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ (سَهْمٌ) يُعَدِّلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ، حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ (مُتَقَدِّمٌ) مِنَ الصَّفِّ.

فَطُعِنَ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ، وَقَالَ: اسْتَوِ يَا سَوَادُ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْجَعْتنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، قَالَ: فَأَقِدْنِي (اقْتَصَّ لِي مِنْ نَفسِكَ).

فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: اسْتَقِدْ.

قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَ بَطْنَهُ.

فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ.

فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرِ.

مَوْقِفٌ مِنْ سَوَادٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَاجَأَ الجَمِيعَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْجَعْتنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، قَالَ: فَأَقِدْنِي

أُرِيدُ القِصَاصَ، يُرِيدُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِدِ الجَيْشِ، بَلْ قَائِدِ الأُمَّةِ، بَلْ وَقَائِدِ البَشَرِيَّةِ.

وَلَكِنَّ الأَعْجَبَ مِنْ كُلِّ هَذَا، رَدُّ فِعْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ اسْتَجَابَ دُونَ أَيِّ جَدَلٍ لِطَلَبِ سَوَادٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: الضَّرْبَةُ خَفِيفَةٌ، وَأَنَا قَائَدُ الجَيْشِ؛ وَلَيْسَ فَقَطْ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ سَوَادًا كَانَتْ بَطْنُهُ عَارِيَةً، وَلَمَّا ضَرَبَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَاءَتِ الضَّرْبَةُ عَلَى بَطْنِهِ مُبَاشَرَةً، فَكَشَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ لِيَضْرِبَهُ ضَرْبَةً مُمَاثِلَةً تَمَامًا عَلَى البَطْنِ مُبَاشَرَةً، وَدُونَ ثِيَابٍ.

فَهَلْ هَذَا المَوْقِفُ يَحْصُلُ في الجَيْشِ الآنَ بَيْنَ جُنْدِيِّ وَرُتْبَةٍ صَغِيرَةٍ؟ هَلْ هَذَا مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَحْصُلَ؟ لَكِنَّ هَذَا الحَدَثَ حَصَلَ في التَّارِيخِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَصَلَ مَعَ قَائِدِ الدَّوْلَةِ بِكَامِلِهَا، كَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ: «اسْتَقِدْ» خُذْ حَقَّكَ، اضْرِبْ يَا سَوَادُ، لَكِنَّ سَوَادًا اعْتَنَقَ وَقَبَّلَ بَطْنَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

إِنَّهَا صِفَةُ التَّلَاحُمِ بَيْنَ القَائِدِ وَجَيْشِهِ وَمَعَ شَعْبِهِ، وَانْصِهَارِهِ فِيهِ، فَالجَيْشُ المَنْصُورُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ قَائِدٍ وَجُنْدِيٍّ، وَالأُمَّةُ المَنْصُورَةُ لَا فَارِقَ فِيهَا بَيْنَ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للأَنْصَارِ في بَيْعَةِ العَقَبَةِ: «أَنَا مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ مِنِّي».

هَذَا الخُلُقُ رَأَيْنَاهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَرَأَيْنَاهُ عِنْدَ بِنَاءِ المَسْجِدِ، وَشَاهَدْنَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَمَا كَانَ يَتَعَاقَبُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مَعَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَسَيِّدِنَا أَبِي لُبَابَةَ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ.

فَقَالَ: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمِ الأُمَّةُ بِحَاجَةٍ إلى أَنْ تُرَاجِعَ تَارِيخَ وَسِيرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِيَجِدُوا هَذَا الانْصِهَارَ وَهَذَا التَّوَاضُعَ بَيْنَ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ وَاضِحًا وُضُوحَ الشَّمْسِ.

وَلَكِنَّهَا الحَسَرَاتُ التي تَأْكُلُ القُلُوبَ، رَوَى الإِمَامُ الحَاكِمُ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ خَلَّتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ احْتَجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ خَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى تَعَلَّمْنَا وَعَرَفْنَا مَكَانَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَتَعَلَّمْنَا كَيْفَ يَكُونُ الحُبُّ الحَقِيقِيُّ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَهَلْ حُبُّنَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَحُبِّ سَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ؟

وَمِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ تَعَلَّمْنَا وُجُوبَ العَدْلِ، فَقَدْ حَكَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالعَدْلِ، فَمَا كَانَ يَرَى لِنَفْسِهِ أَمْرًا يَخْتَصُّ بِهِ، حَتَّى قَالَ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».

فَسَوَادٌ كَانَ جَرِيئًا عَلَى طَلَبِ القِصَاصِ وَبِدُونِ تَرَدُّدٍ، لِمَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالعَدْلِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 28/ رمضان /1443هـ، الموافق: 29/نيسان / 2022م