813ـ خطبة عيد الفطر 1443 هـ

813ـ خطبة عيد الفطر 1443 هـ

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ التي آمَنَتْ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ الاهْتِمَامُ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، بِحُسْنِ السِّيرَةِ فَلَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَبِصَفَاءِ السَّرِيرَةِ فَلَا يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ مَوْلَاهُمْ.

بِحُسْنِ السِّيرَةِ يَنْتَفِعُ دُنْيَا وَأُخْرَى بِإِذْنِ اللهِ تعالى، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ».

ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا.

فَقَالَ: «وَجَبَتْ».

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟

قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ»

فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ تعالى لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ، فَعَلَيْهِ بِالسِّيرَةِ الحَسَنَةِ.

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ مَقَامَ رِضَا اللهِ تعالى فَعَلَيْهِ بِصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، وَالدُّخُولِ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

شَهْرُ رَمَضَانَ غَيَّرَ الصَّائِمَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَهَا نَحْنُ قَدْ وَدَّعْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ الذي غَيَّرَ طَبِيعَةَ الصَّائِمِينَ بِحَقٍّ، فَجَعَلَهُمْ يَهْتَمُّونَ بِحُسْنِ السِّيرَةِ حَيْثُ الْتَزَمُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَهَذَّبَ الصِّيَامُ أَخْلَاقَهُمْ، وَرَبَّى نُفُوسَهُمْ، حَتَّى يَكُونُوا أَهْلًا لِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِأَنَّ الصِّيَامَ يَشْفَعُ للصَّائِمِينَ، وَلِيَفُوزُوا بِالقُرْبِ مِنْ مَجَالِسِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا». فَكَانَ إِصْلَاحًا وَتَحْسِينًا لِظَاهِرِهِمْ.

وَكَذَلِكَ جَعَلَهُمْ يَهْتَمُّونَ بِصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، وَذَلِكَ بِإِدْخَالِهِمْ في مَقَامِ الإِحْسَانِ الذي بَيَّنَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَاهْتَمُّوا بِسَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ، وَصَفَاءِ سَرِيرَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللهَ تعالى نَاظِرٌ إلى قُلُوبِهِمْ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».

فَكَانُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تعالى، حَيْثُ صَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، فَكَانَتْ أَنْقَى وَأَطْهَرَ مِنْ مَاءِ المُزْنِ.

فَهُمْ لَا يَحْمِلُونَ حِقْدًا، وَلَا حَسَدًا، وَلَا غِشًّا لِعِبَادِ اللهِ تعالى، وَكُلُّنَا يَعْلَمُ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رواه الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى.

فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى.

فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ.

قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ.

قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ.

صَفَاءُ السَّرِيرَةِ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنِّي أَرْجُو اللهَ تَبَارَكَ وتعالى أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ جَعَلَنَا نَهْتَمُّ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَبِصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، فَلَا يُذْكَرُ أَحَدُنَا إِلَّا بِخَيْرٍ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ حُسْنِ السِّيرَةِ.

وَأَرْجُو اللهَ تَبَارَكَ وتعالى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ صَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الجَنَّةِ، لِيَفُوزُوا بِشَفَاعَةِ الصِّيَامِ، وَبِدُخُولِ الجَنَّةِ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لِنَجْعَلْ هَمَّنَا وَنَحْنُ نُوَدِّعُ شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ حُسْنَ السِّيرَةِ، وَصَفَاءَ السَّرِيرَةِ، حَتَّى يُكْرِمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِالقَبُولِ دُنْيَا وَأُخْرَى.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَصَفَاءِ السَّرِيرَةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الاثنين: 1/شوال /1443هـ، الموافق: 2/ أيار / 2022م