189ـ المجاهرة بالمعصية أمر خطير

كلمة شهر ذي القعدة 1443

189ـ المجاهرة بالمعصية أمر خطير

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ حَرَصَ الإِسْلَامُ عَلَى تَحْصِينِ المُجْتَمَعَاتِ مِنْ عَوَامِلِ الفَسَادِ، حَتَّى لَو وُجِدَ فَسَادٌ عَلَى مُسْتَوًى فَرْدِيٍّ، فَالإِسْلَامُ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ لَا يَنْتَشِرَ لِيُلَوِّثَ البِيئَةَ، لِأَنَّ المُجَاهَرَةَ بِالمَعْصِيَةِ انْتَقَلَتْ مِنْ كَوْنِهَا مَعْصِيَةً فَرْدِيَّةً تَضُرُّ بِصَاحِبِهَا إلى كَوْنِهَا مَعْصِيَةً عَامَّةً تُلَوِّثُ البِيئَةَ كُلَّهَا.

يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إِنَّ المَعْصِيَةَ إِذَا خَفِيَتْ لَنْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، فَإِذَا أُعْلِنَتْ ضَرَّتِ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ.

المُجَاهَرَةُ بِالمَعْصِيَةِ أَمْرٌ خَطِيرٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُجَاهَرَةَ بِالمَعْصِيَةِ، وَعَدَمَ مُبَالَاةِ المَرْءِ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِوُقُوعِهِ فِيهَا، أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَقَدْ حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مَا أَشْنَعَ هَذَا الفِعْلَ الذي تَتَوَغَّلُ النَّفْسُ فِيهِ في غَمْرَةِ المَعْصِيَةِ المُقْتَرِنَةِ بِالجَهْلِ، فَيَزِيدُ عَلَى وَبَاءِ الذَّنْبِ ظُلْمَةَ الانْسِلَاخِ مِنَ الحَيَاءِ مِنَ اللهِ تعالى وَمِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ الحَيَاءَ لَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مِنَ اللهِ تعالى؟

أَمَا تَشْتَاقُ هَذِهِ النَّفْسُ نَفْسُ المُجَاهِرِ بِالمَعْصِيَةِ إلى سِتْرِ اللهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ؟ الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى لِمَنْ أَذْنَبُوا وَلَمْ يُجَاهِرُوا، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المَازِنِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟

فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قُولُوا لِلْأَخِ الذي يُجَاهِرُ بِالمَعْصِيَةِ: بِاللهِ عَلَيْكَ لَا تَكُنْ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِغَيْرِكَ، حَتَّى لَا تَتَحَمَّلَ وِزْرَكَ وَوِزْرَ مَنْ تَابَعَكَ عَلَى المَعْصِيَةِ، تَذَكَّرْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلْ تُرِيدُ أَنْ تُعْلِنَ مَعْصِيَتَكَ وَتُجَاهِرَ بِهَا حَتَّى يَتَكَلَّمَ النَّاسُ عَنْكَ؟

اعْلَمْ أَنَّ المَعْصِيَةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا للتَّفَاخُرِ أَو التَّبَاهِي؛ المَعْصِيَةُ تَحْتَاجُ إلى تَوْبَةٍ وَنَدَمٍ وَاسْتِغْفَارٍ، لَا تَجْعَلِ النَّاسَ يَحْفَظُونَ عَنْكَ المَعَاصِيَ، لِأَنَّهَا لَا تُمْحَى عِنْدَهُمْ وَلَو تُبْتَ إلى اللهِ تعالى مِنْهَا، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ تَتُبْ إلى اللهِ تعالى مِنْهَا.

أَيُّهَا المُجَاهِرُ بِالمَعْصِيَةِ: اسْمَعْ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ».

وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ».

قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ» وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ، فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ».

أَيُّهَا المُجَاهِرُ بِالمَعْصِيَةِ: إِنَّ مُجَاهَرَتَكَ بِالمَعْصِيَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَدِّي للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ بِوُسْعِكَ أَنْ تَتَحَدَّى اللهَ تعالى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أَيُّهَا المُجَاهِرُ بِالمَعْصِيَةِ: إِنَّ مُجَاهَرَتَكَ بِالمَعْصِيَةِ قَدْ تَدْفَعُكَ لِاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِيرٌ قَدْ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ مِنْ دِينِ اللهِ تعالى.

وَهَلْ تَعْلَمُ أَيُّهَا المُجَاهِرُ بِالمَعْصِيَةِ أَنَّ العُقُوبَةَ سَتَقَعُ عَلَى مُجْتَمَعِكَ الذي فِيهِ أُصُولُكَ وَفُرُوعُكَ وَزَوْجُكَ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾؟

في الخِتَامِ أَقُولُ لَكَ يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، احْذَرِ المُجَاهَرَةَ بِالمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ عَوَاقِبَهَا وَخِيمَةٌ، وَلَا تَسْتَخِفَّ بِمَعْصِيَةٍ مِنَ المَعَاصِي، وَلَا تَنْظُرْ إلى صِغَرِ الذَّنْبِ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلى عَظَمَةِ الرَّبِّ الذي تَعْصِيهِ؛ وَلَقَدْ ضَرَبَ لَكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِذَلِكَ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا.

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْهُ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 1/ذو القعدة /1443هـ، الموافق: 1/ حزيران / 2022م