14ـ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كله رحمة (5)

14ـ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كله رحمة (5)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَحْمَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ لَا تُوَازِيهَا رَحْمَةٌ، وَلَا تُدَانِيَهَا رَحْمَةٌ مِنْ رَحْمَةِ الخَلْقِ بِالخَلْقِ.

سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَبَرَّأُ مِنْ قَوْمِهِ:

سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ دَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَصَرَّحَ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ وَهُوَ في المَهْدِ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ، قَالَ تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾. أَوَّلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي ابْنُ اللهِ.

فَعُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاتُّخِذَ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَزَعَمَ النَّصَارَى كَذِبًا وَزُورًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا الافْتِرَاءِ وَالكذِبِ: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

نَعَمْ، سَوْفَ يُسْأَلُ الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ عَنْ أُمَمِهِمْ، وَسَوْفَ تُسْأَلُ الأَقْوَامُ عَنْ رُسُلِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾.

وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَكَشَفَ الغُمَّةَ، وَجَاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ.

فَسَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَبَرَّأُ مِنَ النَّصَارَى الذينَ كَذَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى اللهِ تعالى، لِأَنَّهُمْ جَاؤُوا شَيْئًا إِدًّا، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾.

بَلْ لَعَنَهُمْ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا لَعَنَهُمْ سَيِّدُنَا دَاودُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

فَسَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَبَرَّأَ مِنَ النَّصَارَى دُنْيَا وَأُخْرَى، وَلَعَنَ الذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ.

سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ قَوْمِهِ وَلَمْ يَلْعَنْهُمْ:

أَمَّا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَلْعَنْ أُمَّتَهُ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامًا، حَيْثُ كَانَ يَدْعُو لَهُمْ، وَيَتْرُكُ أَمْرَ نَفْسِهِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُرْضِيهِ في أُمَّتِهِ، وَلَا يَسُوءُهُ فِيهَا.

روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟».

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لِقَوْمِهِ الذينَ آذَوْهُ، وَأَسَالُوا دَمَهُ الشَّرِيفَ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ المُبَارَكَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، بِأَنْ يُسَامِحَهُمُ اللهُ تعالى، وَيَعْفُوَ عَنْهُمْ، كَمَا جَاءَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» رواه الشيخان عن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَمَّا رَحْمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَحَدِّثْ وَلَا حَرَجَ، فَهُوَ الشَّفِيعُ لَا لِقَوْمِهِ فَقَطْ، بَلْ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى، للفَصلِ بَيْنَ الخَلَائِقِ.

روى الشيخان، عِنْدَمَا يَأْتِي النَّاسُ لِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَجْلِ الشَّفَاعَةِ، «فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُوتَى، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ رَحْمَةَ اللهِ فَلْيَرْحَمْ خَلْقَ اللهِ، فَبِمِقْدَارِ مَا تَرْحَمُ تُرْحَمُ، وَلَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ.

اللَّهُمَّ لَا تَنْزِعِ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 15/جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 20/ كانون الأول / 2021م