11ـ معجزة انشقاق القمر

11ـ معجزة انشقاق القمر

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَمِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَكْرَمَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مُعْجِزَةُ انْشِقَاقِ القَمَرِ، وَالتي أَثْبَتَهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ، لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهَا، قَالَ تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾.

روى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً فَوْقَ الجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اشْهَدُوا».

وروى الحاكم في المُسْتَدْرَكِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾.

وروى البيهقي في الاعتقاد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ.

فَقَالَ كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ: هَذَا سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؛ انْظُرُوا السُّفَّارَ فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ.

قَالَ: فَسُئِلَ السُّفَّارُ وَقَدِمُوا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَالُوا: رَأَيْنَا.

وَجَاءَ في كِتَابِ الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: سَحَرَكُمُ ابن أَبِي كَبْشَةَ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إنَّ مُحَمَّدًا إنْ كَانَ سَحَرَ الْقَمَرَ، فَإنَّهُ لَا يَبْلُغُ من سِحْرِهِ أَن يَسْحَرَ الْأَرْضَ كُلَّهَا، فَاسْألُوا من يَأتِيكمْ من بَلَدٍ آخَرَ هَلْ رَأَوْا هَذَا؟ فَأتَوْا فَسَألُوهُمْ، فَأَخْبَرُوهُم أَنَّهُمْ رَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ.

هَذِهِ المُعْجِزَةُ مِنْ أَعْظَمِ المُعْجِزَاتِ للأَسْبَابِ الآتِيَةِ:

أولًا: حَدَثَتِ المُعْجِزَةُ بِنَاءً عَلَى طَلَبٍ مِنَ الكُفَّارِ، لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً؛ فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ.

وَلِمَا وَرَدَ في حَدِيثِ البَابِ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اشْهَدُوا».

وَالآيَةُ التي تَأْتِي عَلَى طَلَبِ المُتَحَدِّي تَكُونُ أَبْلَغَ في إِظْهَارِ قُوَّةِ المُتَحَدَّى وَأَلْزَمَ للخَصْمِ.

ثانيًا: حَدَثَتِ المُعْجِزَةُ في آيَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الآيَاتِ الكَوْنِيَّةِ وَهِيَ القَمَرُ، الذي تَتَعَلَّقُ بِهِ قُلُوبُ النَّاسِ وَأَبْصَارُهُمْ كُلَّ لَيْلَةٍ، خَاصَّةً في مِثْلِ هَذَا الزَّمَنِ، فَكَوْنُ المُعْجِزَةِ في القَمَرِ نَفْسِهِ أَفَادَ الأُمُورَ الآتِيَةِ:

1ـ كَانَتْ مُعْجِزَةً عَامَّةً لَا يَسَعُ أَحَدًا أَنْ يُنْكِرَهَا، فَقَدْ شَاهَدَهَا المُسْلِمُ وَالكَافِرُ، وَالكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالحَاضِرُ وَالبَادِي، فَهِيَ بِذَلِكَ تَخْتَلِفُ عَنْ بَقِيَّةِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التي غَالِبًا مَا تَقْتَصِرُ رُؤْيَتُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ.

2ـ يُجْمِعُ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالفِطَرِ السَّوِيَّةِ أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلا الذي خَلَقَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ، وَهُوَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى، كَمَا يُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لَا تَأْتِي عَنْ طَرِيقِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ وَالإِيحَاءِ، وَهَلْ قَدِرَ السَّحَرَةُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ عَلَى مِثْلِهَا؟!

فَهَلْ يُعْقَلُ أَنَّ الحَكِيمَ العَلِيمَ يُؤَيِّدُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ ـ حَاشَا للهِ أَقُولُهَا فَقَطْ تَنَزُّلًا مَعَ الخَصْمِ ـ بِمُعْجِزَةٍ تَكُونُ في وَاحِدٍ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ القَمَرُ، فَيَجْعَلُ عِبَادَهُ في شَكٍّ وَرَيْبٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، إِنَّ أَخَفَّ النَّاسِ عُقُولًا يُقِرُّونَ أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى تَأْبَى ذَلِكَ.

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَمِنْ أَعْظَمِ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ المُكَذِّبُونَ أَنْ يُرِيَهُمْ مِنْ خَوَارِقِ العَادَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ وَصِدْقِهِ، أَشَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى القَمَرِ بِإِذْنِ اللهِ تعالى فَانْشَقَّ فِلْقَيْنِ، فَلْقًا عَلَى جَبَلِ أَبِي قَبِيسٍ، وَفِلْقًا عَلَى جَبَلِ قَيْقُعَانَ، وَالمُشْرِكُونَ وَغَيْرُهُمْ يُشَاهِدُونَ هَذِهِ الآيَةَ الكُبْرَى الكَائِنَةَ في العَالَمِ العُلْوِيِّ، التي لَا يَقْدِرُ الخَلْقُ عَلَى التَّمْوِيهِ بِهَا أَو التَّخْيِيلِ، فَشَاهَدُوا أَمْرًا مَا رَأَوْا مِثْلَهُ، بَلْ وَلَمْ يَسْمَعُوا أَنَّهُ جَرَى لِأَحَدٍ مِنَ المُرْسَلِينَ قَبْلَهُ نَظِيرُهُ، فَانْبَهَرُوا لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِهِمْ، فَفَزِعُوا إلى بُهْتِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، وَقَالُوا: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّكُمْ تَسْأَلُونَ مَنْ قَدِمَ إِلَيْكُمْ مِنَ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ مَنْ قَدِرَ عَلَى سِحْرِكُمْ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْحَرَ مَنْ لَيْسَ مُشَاهَدًا مِثْلَكُمْ، فَسَأَلُوا كُلَّ مَنْ قَدِمَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوُقُوعِ ذَلِكَ.

3ـ هَذِهِ المُعْجِزَةُ هِيَ المُعْجِزَةُ الحِسِّيَّةُ الوَحِيدَةُ ـ فِيمَا نَعْلَمُ ـ القَائِمَةُ بِأَمْرِ اللهِ إلى الآنَ، ذَلِكَ أَنَّ عُلَمَاءَ الفَلَكِ في عَصْرِنَا هَذَا قَدْ ضَبَطُوا أَثَرَ الانْشِقَاقِ في جِسْمِ القَمَرِ؛ لِأَنَّ القَمَرَ بَعْدَ الانْشِقَاقِ لَمْ يَلْتَئِمْ تَمَامًا، فَقَدْ تَرَكَ الانْشِقَاقُ أَثَرًا فِيهِ كَالشَّرْخِ، ذَلِكَ أَنَّ عُلَمَاءَ الفَلَكِ في عَصْرِنَا هَذَا قَدْ ضَبَطُوا أَثَرَ الانْشِقَاقِ في جِسْمِ القَمَرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أْكْثَرُ مِنْ مَصْدَرٍ مِمَّنِ اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ.

وَأَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ تَبْقَى هَذِهِ المُعْجِزَةُ ظَاهِرَةً للعِيَانِ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَالْتَأَمَ القَمَرُ تَمَامًا بَعْدَ الانْشِقَاقِ.

4ـ أَثْبَتَ القُرْآنُ الكَرِيمُ تِلْكَ المُعْجِزَةَ الحِسِّيَّةَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُونَ بَقِيَّةِ المُعْجِزَاتِ.

بَعْضُ فَوَائِدِ الحَدِيثِ:

الفَائِدَةُ الأُولَى:

تَتَجَلَّى في هَذِهِ المُعْجِزَةِ العَظِيمَةِ قُدْرَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ، وَكُلُّ شَيْءٍ في قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ، فَلَيْسَ في قُدْرَتِهِ أَصْعَبُ وَلَا أَسْهَلُ، فَكُلُّ مَا يُرِيدُهُ يَكُونُ بِكَلِمَةِ كُنْ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. ثُمَّ إِنَّ القَمَرَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ يَفْعَلُ فِيهِ وَبِهِ مَا يَشَاءُ وَقْتَمَا شَاءَ.

الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

حُبُّ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِرَادَتُهُ سُبْحَانَهُ وتعالى إِعْلَاءَ شَأْنِهِ وَدِينِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُ وَتَحَدَّاهُ، وَلِذَلِكَ أَيَّدَهُ بِمُعْجِزَةٍ عَظِيمَةٍ مِثْلِ انْشِقَاقِ القَمَرِ، مَا سَمِعْنَا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمِيعًا.

الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

نَجْزِمُ قَطْعًا أَنَّ آيَةَ انْشِقَاقِ القَمَرِ قَدْ حَدَثَتْ فِعْلًا في مَكَّةَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مِنْ عَلَامَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِقَوْلِهِمْ بِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾. أَيْ: إِنَّ الانْشِقَاقَ سَيَكُونُ بَعْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، كَتَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَانْشِقَاقِ السَّمَاءِ، وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، أَمَّا تَوْجِيهُ الآيَةِ القُرْآنِيَّةِ، فَقَدْ نَقَلَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنِ القُرَّاءِ أَنَّ الفِعْلَيْنِ إِذَا كَانَا مُتَقَارِبَيِ المَعْنَى فَلَكَ أَنْ تُقَدِّمَ وَتُؤَخِّرَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى﴾. كما أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ دَلِيلُ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الآيَةَ قَدْ حَدَثَتْ بِالفِعْلِ؛ لِأَنَّ الآيَاتِ المُصَاحِبَةَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ لَا يَكُونُ فِيهَا تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ، وَلَيْسَ المَقْصُودُ بِهَا إِلْزَامَ المُعَانِدِينَ الحُجَّةَ.

الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

وَهِيَ فَائِدَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ مَعَ كُلِّ مُعْجِزَةٍ حِسِّيَّةٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَنَّ الكُفَّارَ لَا تَعُوزُهُمُ المُعْجِزَاتُ حَتَّى يُسْلِمُوا، فَقَدْ رَأَوْا مِنَ المُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ مَا يُلْزِمُهُمُ الحُجَّةَ، وَكَانَتْ بَعْضُهَا بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَعْرَضُوا وَاتَّهَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالسِّحْرِ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾.

الفائِدَةُ الخَامِسَةُ:

هَذِهِ المُعْجِزَةُ تُعَلِّمُنَا نَحْنُ العُقَلَاءَ كَيْفَ تَكُونُ اسْتِجَابَةُ المُؤْمِنِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَجِبُ عَلَيْنَا الاسْتِجَابَةُ بِدُونِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.

فَإِذَا كَانَ الجَمَادُ اسْتَجَابَ لِإِشَارَتِهِ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِالاسْتِجَابَةِ لِأَوَامِرِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالعِبَارَةِ أَو بِالإِشَارَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾.

تَجِبُ الاسْتِجَابَةُ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ تَرَدُّدٍ، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.

وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَانَتْ لَدَيْهِمُ الاسْتِجَابَةُ المُطْلَقَةُ لِعِبَارَتِهِ وَلِإِشَارَتِهِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ».

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ.

قَالَ فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا.

قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: «امْشِ، وَلَا تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ».

قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟

قَالَ: «قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ».

وروى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ (أَيْ: سِتْرَهَا) وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «يَا كَعْبُ».

قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ.

قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُمْ فَاقْضِهِ».

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِاسْتِجَابَتِهِ وَطَاعَتِهِ الطَّاعَةَ المُطْلَقَةَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 26/ جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 31/ كانون الأول / 2021م